إبنة تريد أن تدفن أبيها.
أن تصلي على أبيها في المسجد، مع المصلين.
أن تمشي في جنازة أبيها، مع المودعين.
ثم تدفنه مع أخيها في قبره.
تودعه، مع أخيها، بالمحبة والدموع.
تودعه وتشكره.
لم نحرمها من هذا الحق؟
لم نحرمها من حق صلاتها على أبيها؟
لم نجردها من حقها في دفنها لأبيها؟
إبنة وتريد أن تصلي ثم تدفن أبيها.
بأي حق تحرموها من هذا الحق؟
*
ستة أشهر كاملة مرت على وفاة أبي. ستة أشهر بالتمام.
واليوم، اليوم فقط تمكنت من خط هذه السطور.
بعد صمت أوجعني.
كنت أريد أن اكتب عن وفاته، ثم عن دفنه.
لكن الحروف كانت تجتمع في كلمات تم تنتظم في اسطر لتدوي خرساء. لا معنى لها. وأنا انظر إليها، ثم اشيح بوجهي. خائبة.
بأية لغة ننعي من نحب؟ فأنا لم أعرف لغة تقدر على وصف حرقة اللوعة وهي تشظي في روحنا عندما ندرك أن من أحببناه إنسل منا، في لحظة كنا فيها غافلين. غِبت مع السحاب أيها الحبيب. فأصبحنا بوراً.
لحظة يتجمد فيها الزمن، نظن أننا نحلم، لا نعي ما قيل لنا، عن موت العزيز.
وأبي، كان عزيزاً، أبي كان أباً فعلاً.
ثم أية كلمات تقدر على وصفِ الفِقد، تدخل في صميمه، تغتسل بدموعه، تنّزه دماً، ثم تنشره، عارياً مسلوخاً مجروحاً مكلوماً، و تتركه، تتركه يجف أنيناً، أنيناً صامتاً… مكسوراً.
ولذا، وضعت الكلمات جانباً. نفرت منها، وسئمتها. قلت لها: “عليك اللعنة. لن أقربك، ولن أنطق بك. كوني صامتة. كوني خرساء. كوني لغيري كلمات. أما أنا فلاكلماتٍ لي في نعيه”.
ألايحق لي أن أغضب؟ وهي التي تأبى إلا أن اختنق بحزني؟
*
لكني اليوم نظرت إلى لوحة المفاتيح…تأملت شاشة الكمبيوتر، ثم تركت اصابعي تتحرك على اللوحة، قلت لها إفعلي ما تشائين، وأنا أتبعك. فكتبت.
لم ترد أن تكتب عن حزن صاحبتها، ولا فقدها لإبيها. فالكلمات لن تقدر عليهما. تركت ذلك لصاحبتها، حزنها لها، ستداويه بالمحبة والذكرى.
لكن ذكرى دفنه. دفن أبيها ظلت تؤرقها. ولذا ستقصه عليكما.
*
أردت أن أشارك في دفن ابي والصلاة عليه.
وكنت أعرف أن عاداتنا في شبه الجزيرة العربية تختلف. ولعلها تتشابه مع بلدان عربية أخرى. لا تقبل ان تشارك المرأة في الصلاة مع الرجال في المسجد، ولا تقبل أن تشارك المرأة في الدفن مع الرجال.
يقولون لها إن فعل ذلك “غير مقبول”. يقولون لها إن فعل ذلك “غير مسموح”. يقولون لها إن فعل ذلك “مرفوض”. ثم يشدد البعض فيقول إنه حرام.
لماذا؟
لم اتعب يوماً من طرح هذا السؤال. لماذا؟ كلما سمعت من يقول لي “هذا حرام”، “هذا عيب”، “هذا ممنوع”، كنت ارد بالسؤال”لماذا؟” وعادة ما يكون الجواب حيرة ممزوجة بالإستهجان: “لأننا نفعل ذلك دوما!”
لكن مثل هذا الجواب لا يُقنع.
فكرا قليلاً ثم تدبرا، وقولا لي، لم نمنعها من حقها في أن تعبر عن حبها وحزنها؟ أليست إنساناً؟
وأنا شاركت في جنازات عديدة حيث اعيش، وكنا نقف رجالاً ونساءا، معاً، نصلي على الميت ثم ندفنه. نرمي الزهور على كفن الصديق او الصديقة، نودعه بصمت دامع ونمضي. ولم ار في مسيرة جليلة كهذه ما يخدش “العادات” او “التقاليد”.
والرجل الذي سندفنه هذه المرة كان أبي، أبي.
أبي الذي اتنفسه حباً.
الأيستحق الرجل الذي أدين له بحياتي أن أكسر من أجله جداراً من التقاليد؟
قلت لإخي الوحيد الأكبر أني أرغب في أن اشارك في دفن ابي. ولم يعترض. إحترم رغبتي، وقرر أن يدعمني في تنفيذها.
“هكذا يحدث التغيير. بالأخ وأخته. الرجل والمرأة. معاً، يقدران على الكثير”. ابلغ ابناء اسرتنا بالقرار، فتقبلوه صامتين.
ثم خرجت الجنازة من بيتنا.
وفي الهوجة وجدت أخي يحمل جثمان ابي مع ابناء عمتي وخالتي. فانشغل به. ووراءه موكب من اصدقاء ابي. تبعتهم، وحدي.
ثم انقذتني من وحدتي قريبة لي. وجدتها تنظر لي مع النساء على باب بيتنا، ثم نفرت منهم إلي. مشيت معي رغم غرابة الموقف. ولذا كنت ممتنة أكثر لوجودها معي. شكراً لك ايتها العزيزة. شكراً لك.
وصلنا إلى المسجد. قالت لي قريبتي إن علينا أن ننتظر. لم أستمع. حاولت ان ادخل المسجد. فوجدت عددا من الرجال إنبثقوا أمامي، واحداً بعد الأخر، يحاولون بأدب ان يمنعوني من دخول المسجد. وكنت مدركة لحرجهم. لكن حبي لأبي، ولذا إصراري، كان أكبر.
ووجدت الكلمات تخرج من فمي لا أسيطر عليها “هو بيت الله، ليس بيتاً للرجال”…”لم تحرمونا من بيوت الله”…”الميت أبي، وأنا أحق بالصلاة عليه من كل من في المسجد الآن”… “هذا بيت الله، ليس بيتاً للرجال، فلم تحرمونا من بيوت الله”.
كنت اتحدث، لا أعي، واتحرك إلى الأمام ببطء، أحاول ان اشق طريقي. إلى أن انقذني خالي. القاضي الحبيب. امسك بذراعي، وجذبني إلى داخل المسجد وهو يحدث راعي المسجد “ألا يوجد مكان لصلاة النساء في المسجد”. فحار الأخير جواباً. فكان الفكاك.
ووجدت نفسي معه في المسجد.
قال لي برفق “صلي في الخلف”. وتركني لينضم إلى الرجال.
ووجدت نفسي أصلي مع المصلين. أخي في المقدمة. وأنا في صف يبتعد عنهم بمسافة، في المسجد، وأصلي معهم على أبي.
وكنت إمرأة بين الرجال. فما العجيب في الموضوع؟
بكيت بصمت.
بكيت وفي داخلي رهبة من جلال اللحظة.
كم مرة تمنيت فيها أن اكون في مسجد يحترم آدميتي. لا يعتبرني عورة. بل إنسان. يصلى إلى الرحمن مع الرجل كإنسان.
بحثت دوماً عن هذا المسجد، ولم اجده إلى يومنا هذا. لكن لعل الوقت قد حان كي نبنيه نحن لإنفسنا.
*
خرج الموكب إلى المقبرة. إقترح علي صديق أبي الجليل أن تأخذني سيارته إلى المقبرة، بعد أن ادرك أني ذاهبة هناك. فقبلت ورفيقتي شاكرة.
عندما وصلت هناك وجدتهم قد دخلوا المقبرة.
وجدت صديقاً كريماً لأبي يقول لي بلطف “هنا لا تشارك النساء في الدفن”. رددت عليه وصوتي حاسم “هناك دائماً اول مرة لكل شيء”. فابتعد.
ومن جديد وجدت رجالاً غرباء، ينبثقون أمامي، يحاولون منعي من الإقتراب من جثة أبي وموكبه. وأنا أمشي تجاههم، الأرض بحجارها تُبعثرني، تحاول شدي إلى الخلف، والرجال مصرون يُبطئون خطواتي، وعيناي على الموكب، أخشى مذعورة ان يدفنوه بدوني.
ثم أنتبهت إلى خالي القاضي يخرج من الموكب، يأخذني من جديد من ذراعي، لينفرط عقد الرجال.
قال لي وهو يمشي معي إلى الجنازة:”أخوك وقف بجثة أبيك وقال لي، ‘إذا لم تأتِ أختي وتشارك معنا في دفنه، فسأرجع بجثة أبي وامضي معها‘”. ثم أكمل خالي وطيف إبتسامة يلوح على شفتيه “وأخوك مجنون. يفعلها”. “ومادام الأمر كذلك، فيجب أن تشاركي”.
آه يا أخي. عندما سمعت عبارة خالي، أدركت أن أبانا لم يمت. يحيا بك وفيك.
“هكذا يحدث التغيير. بالأخ وأخته. الرجل والمرأة. معاً، يقدران على الكثير”.
وصلتُ إلى القبر المحفور. ورأيتك أخي، هناك تنتظرني. كنت أنت أيضاً مدهوشاً. مكلوماً. مصدوماً. كان كل شيء جديد عليك، كما علي.
طلبوا منك ان تنزل إلى القبر كي تحمل جثته وتُدخلها إلى مُستقرها. فنزلت.
ثم طلبتَ من قريبنا الآمين أن يدعوني إلى الإقتراب. ونظرتَ إلي مصرأ أن أشارك في حمل جثة أبي. ففعلتُ ممتنة. فخورة أني أختك.
أمسكتُ بجثة أبي مع أبناء عمتي وعمي وأنزلناها إليك.
ونظرتُ إلى وجه أبينا الذي تجسد لي من خلال قماش الكفن الأبيض. تهيأ لي أنه يبتسم لي ولكَ. فكدت أرد عليه بالإبتسام. لولا الحياء.
ثم رأيتك وانتَ تُدخِلُ أبي إلى مُستقره، مع قريبنا الآمين.
وكنتَ على عهدك، نفذتَ وصية أبي، ولم تُعفّر أنف أبي بالتراب كعادتنا في اليمن. تماماً كما أراد. “بتجلصني (تؤلمني)” قالها لي مرة عن هذه العادة.
وصلينا، عليكَ أبي.
وأنا كنت إمرأة بين الرجال.
فما العجيب في هذا؟
*
صديقا عمِر أبي. أقبلا علي بعد ذلك.
أحدهما، ذلك الجليل القدير، صاحب القلب الطاهر كما كان يسميه أبي، قال لي “كان ذلك من أجل حقوق المرأة؟”
ردي كان عفوياً “بل حق الإنسان. إبنةٌ، وتريد أن تدفن أبيها.”
كان ذلك من أجلك أنتَ أبي.
من أجلك أنتَ.
ماكان لك أن تدُفن دوني.
*
ولذا أعود فأكرر عليكما الكلمات، فتأملا فيها ثم تدبرا:
إبنة تريد أن تدفن أبيها.
أن تصلي على أبيها في المسجد، مع المصلين.
أن تمشي في جنازة أبيها، مع المودعين.
ثم تدفنه مع أخيها في قبره.
تودعه، مع أخيها، بالمحبة والدموع.
تودعه وتشكره.
أين الحرام في ذلك؟
ثم ما دخل الله في هذا الموضوع؟
لم لا نحترم حزنها؟
لم لا نحترم آدميتها؟
إبنة وتريد أن تصلي ثم تدفن أبيها.
بأي حق تحرموها من لحظة وداعها لإبيها؟
ثم بإسم مَنْ تحرمونا، نحن النساء، من هذا الحق؟
يوم دفنت أبي… مع أخي
الى الهام مانع وكل فتاة شرقية تعاني التمييز والحرمان والاضطهاد المزدوج، عزاء بل عزائين
الأول: بوفاة الوالد فله الرحمة
والثاني: عزاء بنا – “ذكور” الشرق الذين لا زالوا يعاملون أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم كعورات ومصدر عيب.. تبا لنا .. فأنا أكتسبت انسانيتي من أمي وأختي وأبنتي وزوجتي ولم تأتني هبة من السماء.. تبا لنا ان لم نفيق؟
يوم دفنت أبي… مع أخي
يحرمونها من هذا الحق..وكأنها ليست إنسانة..لطالما سألت نفسي..إذا كانت المرأة ليست إنسانة فما هي.مجرد عورة وفتنة؟؟؟
لا أعتقد ذلك..بل هم يعتقدون ذلك..بنظرتهم الدونية..بسلطتهم الأبوية..بثقافتهم الا فكرية..ثقافتهم ممزوجة بالغرور بالسلطة..بالحقد والكره..وما زالوا يعتقدون أن المرأة كائن أدنى من الرجل..ولكن مجرد قول هذا الشيء..فأنهم يؤكدون إضطهاد الرجل بإسم إطضهاد المرأة..فالرجل إنسان..والمرأة إنسان..ولا يجوز أن يعتبر الإنسان أن أخته الإنسانة أقل منه..