اللوحات لبشّار العيسى
*
تشبه علاقة “يشار كمال” بنفسه مفاصل ملحمة قدرية، تبدو و كأن الاقدار حاكتها في غابة من القصب الاسود واودعتها النسور اعشاشها وأنشدت الخناجر مراثيها .
لا تغيب الخناجر والسكاكين عن كتابات يشار كمال فهي واحدة من صياغاتها وشخوصها الدامية. في الثالثة من عمره أصابت سكين عمه عينه اليمنى، وهو يقصّب خروف العيد و في سنّ الرابعة غُرزت سكين في جسد والده وهو يصلي في المسجد. ليلتها بكى يشار طويلا يصرخ ” في قلبي حريق” وفي الصباح كان الطفل قد غدا يافعا.
أين يشار؟
” أين ياشار، لا أراه!” صرخ الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتيران” في مستقبليه الرسميين، في زيارته لتركيا سنة 1993، مثيرا حالة من الذعر بين مستقبليه الرسميين.
لم يكن الرئيس المثقف والقارئ النهم ” ميتيران” من المعجبين بالتمردات والمتمردين، لكن وزير ثقافته “جاك لانغ” هو الذي حببه بكتابات يشار كمال. وميتيران مولع بالانبهار بالشخصيات ذات القدر الملحمي، فصار صديقا شخصيا لياشار كمال الذي استُقبل مراراً في قصر الاليزيه مع صديقه عالم الاجتماع “ألتان غوكالب”.
الطفل اليتيم شاغل تركيا وأشهر عمالقة الرواية /الحكاية /الملحميات المغناة نثرا، كواحد من أشدّ مغني التروبادور السرديين ولعا بالفوضى، يحكي عشقا ويسرد همهمات عابرة لرعاة وبداة وعابرين وحصادين جوالين. عاشق الطبيعة بعبقها عن قرب، ملوِّن الكلمات كبستاني مهووس بعصافير حقله ويزخرفها كسرج حصان فارس مزهو كأنشودة راع جبلي تفوح من حروفه اطياب الحليب والاجبان مثلما تفوح من ثنايا كتاباته كره الاحقاد والتخلف والعادات البائسة يبثها في احجية متمردة تحرض على الرفض والتمرد بالغليان كأنه مرجل قطران او صوت طلقة. عينه الوحيدة تشع بما للصقور والذئاب من قدرة الاحتراق في التهور المنضبط بالعدل..
كاتب، روائي، أناضولي من اصل كردي من الشرق البعيد التجأت اسرته في هجرة غير موصوفة بضفاف المتوسط وهضابها التي استوطنت هجرات طوعية وقسرية للكرد والتركمان والبداة الرحل جمعوا الى بعضهم ثقافات تمازجت لتشابهها وتلونت بتنوعها.
رجل من طراز تاريخي مفقود، يغادر عصرا لم يعد يليق به. عصره غير عصر أردوغان المشبع بالتخلف والسلفية والاغطية التي تقتل الانثى في طفولتها. ابجديته غير ابجدية عصر اردوغان الغارقة في السلفية في حين استقى ياشار عشقا ابجدية من احلام مجنون سالونيك (مصطفى كمال) القادم من جبهات القتال. التجأ بكرد ارزروم ليبني ملحمة عصرية لتحالف كردي تركي من أجل الحرية، لا من عالم اردوغان الخارج من مدارس القرآن والهزهزة بغير عقل على ترنيمات وصلوات غارقة في الجهالة تزيد الفقراء جهلا لتغرف منهم جندا عصاة على العصرية والتمدن.
عمل يشار الطفل اليتيم، في مزارع القطن وتزعم عصابة اطفال لسرقة البطيخ. شهد صعود الاتاتوركية، عمل كاتب عرائض وصحافيا في زمن الحرب الكورية وخضوع تركيا للغرب. بدأ بالشعر المشحون بالأغاني.: عاش بين البداة التركمان وتجول في الارياف الكردية وسمع من اسرته حكايات وثقافة الكرد ومن الصيادين عالم البحر، الى أن تشبع بالملحمية الغنئية والمراثي الموجعة، فصار قصاصا وهو يلهي روحه العطشى والتهابات عذابات الارياف وظلم الشرطة ومن ثم البوليس السري لنا نحن العطشى بدورنا. تعرفته قاعات المحاكم وازدرأ ياقات ثياب المدّعين العامين للجمهورية المستبدة كما استهزأ بياقات القضاة المبجلين بحكم العسكر .
يقول له القاضي اتحسب نفسك “زولا” يجيبه ياشار هازّاً كتفيه: زولا كان في القرن التاسع عشر وانا ابن عصري.
” سيحان” القصيدة والصيف الحار مجموعة قصصية وخمسون يوما في الغابات الملتهبة (كتابات صحفية) وتشوخورفا، في النار والتنكة ، يقفز منها الى ميميد الضئيل الاول 1955 والثاني والثالث والرابع، وارض من حديد وسماء من النحاس، واقتلوا هذه الافعى، وخذ عيني وانظر يا صالح، وغضب البحر…. وغيرها.
من عالم اهالي منطقته طفلا ومن طبيعة بيئته وذاكرة أقوامه التي عشقها شاعرا، صاغ “ياشار كمال” حكاياته السردية كمن يغني ملحمة تتواصل في بعضها وتتناسل من بعضها، حلم بالنوبل وحلمت به نوبل، لكن الدروب لا تتقاطع بالإبداع الصادق، دائما هناك شيء غير الابداع، فالجوائز تهرب بعيدا عن المتمردين في عالم التحكيم البارد كبزّات القضاة العسكرية.
لم يكن يوما، ولم يصبح يشار كمال قط حياديا ولم يمتهن احتراف البرودة المهنية. كان متمردا ينشد العدالة وعادلا يبتغي المساواة ويقدس الحقوق مهما ضئلت او مهما كبر الطغاة. كان منصفا في صفة كاتب كالوزان في سوق الذهب في الحياة كما في صياغاته اللغوية. لقد رفع يشار كمال من قيمة اللغة التركية الى مصاف الجمال لكن الدولة التركية ظلت تترصده كصياد مشاكس يخترق اعشاش العصافير ويسرق بطيخ الحقول:
” كانت الزنابق قد مدَّت تويجاتها الى الشمس، بيضاء ناصعة، وفي الافق البعيد اندفعت غيمة الى هذه الجهة ونشرت ظلها فوق المستنقعات ثم تابعت انزلاقها ماسحة وجه دوملو.” . من “اقتلوا هذه الافعى
“.
كره “كمال” فظاظة السلطة التركية تجاه العدالة والديمقراطية فيما يخص قومه الكرد مما ادى به الامر الى السجن مرارا بتهمة التحرض على الانفصال.
“قبل شهور يتقدم رجل (سبعيني) مرفوع الرأس من حاجز قفص محكمة أمن الدولة العليا منتصبا كشجرة سنديان، بوجه ملوّح بالتجاعيد تحت كتلة من الشعر الاشيب هكذا يصفه “دانييل روندو” في صحيفة لو نوفيل اوبزر فاتور سنة 1995. يجيب لا اقبل بغير محكمة الشعب، الشعب و الامة، وبالتأكيد ليست المحاكم الاستثنائية”.
هذا هو المتمرد “ميميد الضئيل” عينه يواجه قوة السطو بقوة التمرد، ينتظره الحكم بعدة اشهر من السجن من اجل مادة نشرت في دير شبيغل الالمانية حين يقول: سبعين سنة من العسف والاضطهاد من السلطة ضد الشعبين التركي والكردي”.
لقد غدت الجمهورية، يضيف يشار كمال، منظومة لا تطاق، سلطة فظة قاسية.
” في بلدي لا يمر يوم دون أن يُقتل كردي برصاص البوليس، شعب غدا اسير المحرمات والقهر والقسر والاقصاء ، هكذا لن تصل تركيا الى الديمقراطية .
المسألة الكردية
كانت المسالة الكردية دائما في صلب تفكيري حين كنت في “حزب العمال” ولم انظر اليها قط كمسالة هامشية وما زالت المأساة مستمرة لليوم، سنة 1995. لقد احرق جنود الدولة 2000 قرية كردية، والطائرات تقصف اربع ولايات باستمرار. هُجّر سكان 5 او 6 محافظات ما يعادل ثلاثة مليون ريفي. جرت مذابح للأطفال، والمدرعات الالمانية التي بيعت لتركيا تسحق المدنيين، والغرب يغلق عينيه. لقد فتلت الحرب على الكرد لليوم 16000 ضحية.
حقوق الكرد تغتصب باستمرار. محرومون من حق تسمية ولاداتهم يطردون من الابنية الحكومية ومن قاعات المحاكم لقد غدت تركيا “رواندا” تصفية عرقية. المهاجرون الريفيون يلتجؤون الى المدن. استانبول اصبحت محاطة بأحزمة فقر من 3، 4، 5 مليون كردي. منذ سبعين سنة والقهر لم يتوقف ضدهم، في حين كان وعد مصطفى كمال اعطاءهم حكما ذاتيا. “نوفيل اوبسرفاتور” و”دير شبيغل”.
آراء وتصريحات قادته مرارا الى المحاكم وحملته احكاما جعلته يهرب فترة الى السويد.
يشار كمال الكردي ولد باسم “صادق كمال غوكجلي” من عشيرة كردية متناسلة في نسبها من واحدة من كبرى القبائل المتمردة في جبال طوروس ووديان قطاع الطرق. امضى طفولة مستعجلة محشوة بجرعات أليمة وفتن عشق الابجدية والتي تعلمها لسنين قصيرة قبل ان يتجول في المهن كما تجول في البراري (يقال بانه عمل في اربعين مهنة منها صانع احذية على ذمة “فاضل لقمان جتكر”). يندر امثل “يشار” ممن يعشقون الابجدية يحتفظون بها تحت الجلد رغم انها ليست ابجديته الخاصة لكن الكتابة روح تتطلب اوكسيجين التنفس دون ان تسأل من أي هواء واي رياح وما حجم التأكسد فيه.
غدا يشار مثل كتابته صدى ارواح وهمهمات سردت او تناقلتها الحناجر في ضوء الفوانيس او حقول الحصاد وبين عيدان القصب وضفاف الانهار حيث يسرد الرعيان والفلاحون والفقراء والمهاجرون ما تيسر لهم من اوجاع الذاكرة او لحظات فرح وما اقل لحظات الفرح غير عيدي الفطر والاضحى (وفي احداها فقد عينه اليمنى والاعراس التي لا يعلم الا الله اي فرح او أي الم تتركه أعراس الفقراء بغير حب)، لعالم تلك الايام لطفل تيتم في الرابعة وغدا عاملا في العاشرة ومتجولا قبل الولادة.
” عالم طفولتي عصي على الوصف لشدة غناه. شديد الطبيعية زاخر الألوان كل الحساسيات والمشاعر المجنونة والمفرحة التي ترتقي سلالم الوجد والنشوة، عشت هذا كمغن والقرية كلها تناديني. (كمال المجنون”).
“كنت أكلِّم النمل والنحل والدبابير والأفراس والحجل والصقور ، امضيت ليالي في اكواخ القصب وحيدا ، لكن المدرسة اخذتني بقوة وحميمية ووجد اشد قوة وحدها الابجدية التي اشعرتني بوهرة المعجزات ومذ اكتشفتها افارقها قط. كنت اعمل ليالي في المعامل وحلج القطن لأذهب نهارا للمدرسة……. وأول عمل روائي قرأته كان” الشيء الصغير ” لالفونسو دودة لان حفيه شارل كان قد انشا محلجا للقطن في منطقتي وصار صديقا لجدي وفي هذا العمل اقتفيت آثار الغناء الملحمي الشرقي ” كريم واسلي”. هكذا يعترف يشار لـ”دانييل روندو” في صحيفة “لو نوفيل اوبزرفاتور” سنة .1995
*
في 1952، تزوج يشار كمال من تيلدا سـِريرو، من عائلة يهودية سفرديم شهيرة من إسطنبول. كان جدها، جاك مانديل باشا، كبير أطباء السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. قامت بترجمة 17 من أعمال زوجها للإنگليزية.
bachar_alissa@hotmail.com