قلّب ناظريك حيث شئت، وانظر في، وإلى، اللغة التي يتداولها العرب في الكلام عمّا يدور في بلادهم. في العراق لا فرق بين كلام ساسة يرتدون ربطات عنق، وقبليين بالدشداشة، والعمامة. فالكل يتكلّم عن العشائر، والسنة، والشيعة، والوقف السني، والحسينيات. ولا فرق بين كلام هؤلاء، وكلام المذيعة الأنيقة الرقيقة الرشيقة على شاشة التلفزيون، التي تعيد ما قاله طائفيون، وأنصاف متعلمين، ولصوص، وأصحاب دكاكين مسلّحة.
وانظر إلى سورية، هناك، أيضاً، يتكلم الكل عن الكل بمفردات الشيعة، والعلويين، والسنة، وأهل الذمة (من إخوتنا المسيحيين)، ولا ينشأ تنظيم في حارة إلا وتغطي بقناع الإسلام، وعلى شاشة “الجزيرة” يطل علينا شخص نرى كتفه، وطرف أنفه، ليحاضر في تاريخ المنطقة، ومؤامرة الفرس الكونية منذ الألف الثالث قبل الميلاد. ومقابل الكل الذي يتكلّم عن الكل، يتكلم شخص بلثغة خفيفة، ورث الحكم عن أبيه، ولم يكن حاكما شرعياً لسورية في يوم من الأيام، بمفردات القومية العلمانية والمقاومة، ويحميه قبليون أفغان، وطائفيون عراقيون، وإيرانيون، ولبنانيون، من قرى فقيرة، جاءوا إلى الشام دفاعاً عن الحسين.
وانظر إلى القرضاوي يقول لك إن “العلماء” هم قادة الأمة. يعني انتهى عهد السياسة والساسة والبرلمانات، والانتخابات، وحتى امتحان مزاولة المهنة، وأصبح من حق خريج مدرسة دينية، في العشرين من العمر، أن يكون قائداً لأمة قد تُختزل في قرية، أو حارة، وقد تشمل، نظرياً، العالمين العربي والإسلامي، وتجعل منه، نظرياً (وعملياً في خلافة داعش والنصرة) أعلى مرتبة من الأطباء، والمهندسين، والأكاديميين، والمثقفين والفنانين والصناعيين، والرياضيين..الخ
ما الذي حدث؟
قبل البحث عن إجابات محتملة، فلنقل أن لا أحد في العالم (وهو كبير، واسع، جميل، وكريم) يتكلم بلغة كهذه خارج بلاد العرب (وهي ضيقة، دميمة، وبخيلة). ولنقل أن العالم (وهو كبير، واسع، جميل، وكريم) لم يعرف بشراً غير العرب، وأقواماً ابتليت بفيروساتهم الأيديولوجية، وصلوا إلى هذا القدر من التدمير الذاتي، وأصبحوا مسكونين ليل نهار، أربع وعشرين ساعة في اليوم، بصناعة الدين، لا بالدين نفسه، (بكل ما تعنيه الصناعة من رؤوس أموال، ومهنيين، ونجارين، وبنائين، وعمّال ديكور، ومخرجين، وممثلين، وانتحاريين، ومجاهدين، وفضائيات، ومدارس، وجامعات، وخطابات، ودعاية، ودعاة، ودعوات، وندوات، ومؤتمرات، وسياسات، وجرائد، وإنترنت، وتويتر، وفيس بوك، وآي فون، وخبل وخطل وهبل وخلل). لا وجود لمكان في العالم، في العقد الثاني من ألفية وقرن جديدين، يشبه العالم العربي.
وليس صحيحاً أن القمع والدكتاتورية، وغياب الديمقراطية، مصدر ما حدث. فهي عنصر ضمن عناصر كثيرة (الصين بلا ديمقراطية، ولا ما يحزنون، ولكنها دولة عظمى). وليس صحيحاً أن الإمبريالية، والصهيونية، وأميركا اللئيمة الزنيمة، بنت الحرام، مصدر ما حدث (أميركا فعلت في أميركا اللاتينية أكثر ما فعل الغرب كله في العالم العربي). فهي، أيضاً، عنصر ضمن عناصر كثيرة. وليس صحيحاً أن البترودولار، وحده، مسؤول عمّا حدث، فهو عنصر ضمن عناصر كثيرة.
الصحيح أن دخول العالم العربي إلى الأزمنة الحديثة كان، وما يزال، مشروطاً بعمليتي إصلاح: دينية وسياسية. وكلتاهما لم تُنجز بعد، وما يزال دون هذه وتلك خرط القتاد. وفي ظل هذا الغياب، ومع تفاعل كل ما ذكرنا من عناصر وُلد الوحش الداعشي، السوفت كوبي، والهارد كوبي، على اختلاف أطيافه وتسمياته. وُلد على مهل، ترعرع بيننا، وتحت أنوفنا.
والواقع أن هذا الوحش، الذي يفرض الجزية، ويسبي النساء، ويحطم “الأصنام”، ويحكم بعلماء القرضاوي، كان ينبغي أن يولد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن وجود الاستعمار الغربي حال دونه. لذا، تأخر وكان عليه الانتظار قرابة قرن آخر. ولنفكر في تاريخ نشأة الدول والممالك، في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، على مدار قرون طويلة، كان لكل قرن دواعشه، ولكل تجربة توسعية في حروب القبائل ضد القبائل، وحروب هذه فرادى ومجتمعة ضد المدن والمدنية، ما يشبه الآن وهنا. حتى ابن خلدون هجس بهذا في القرن الرابع عشر.
والواقع، أيضاً، أن تفاعل ما ذكرنا من عناصر، معطوفة على غياب الإصلاح الديني والسياسي، تسارع واستمد قوّة مُضاعفة لا نتيجة انهيار أيديولوجيا القومية العربية، و”العلمانية”، بعد الهزيمة الحزيرانية، كما يُقال، بل بفضل وجودهما في عقود سبقت، فقد كان كلاهما، على ما به من نزعات حداثية، وعداء للاستعمار، معادياً لفكرة الإصلاح الديني والسياسي. ولا سر في الأمر، ولا أسرار. ثمة علاقة لا تنفصم بين الذهاب في تجربة الإصلاح الديني والسياسي إلى حدها الأقصى، وديمومة النظام (لا الدولة). وعندما تماهى النظام بالدولة، في أيديولوجيا القومية العربية، انطوي الإصلاح على احتمال تقويض النظام.
حسن خضر ولم يكن من قبيل المفارقة، ولا المصادفة، أن ينشئ حافظ الأسد، المتآمر البعثي، سلالة حاكمة في سورية، أسهمت في تفتيت البلد على أسس طائفية. ولا كان من قبيل المصادفة أن صدّام حسين، المتآمر البعثي، في العراق، هو الذي قوّض هوية المواطنة في بلاده. ولم يكن من قبيل المفارقة، ولا المصادفة، أن مشاريع التوريث، وإنشاء سلالات حاكمة، وقعت في جمهوريات كانت راديكالية في وقت ما، وتُستخدم، عادة، كوسيلة إيضاح لمعنى القومية والعلمانية.
وقعت آخر هجمات الدواعش الوهابيين على العراق في الربع الأوّل من القرن الماضي. ولعب البريطانيون دوراً رئيساً في الحيلولة دون تكرارها. والمفارقة أن بلاد العرب لن تصمد في وجه آخر موجات الدواعش دون مساعدات عسكرية وتقنية، وربما بشرية: ومِنْ أين؟ من الغرب نفسه. يا للهول.
khaderhas1@hotmail.com