أيا يكن ألوجه الظاهر الذي يدفع بحزب الله الى رفض التعاطي المباشر مع قرارات المحكمة الدولية، فإن الأهداف الأخرى المتراكمة هي أسباب رئيسية أيضا ومحركة لهذا السيل من الإجتهادات المبرمجة و” التسييسية ” الجاهدة الى العرقلة.
وما بات واضحا للجميع بعد المعلومات التي أوردها ألسيد نصرالله في مؤتمره الصحفي الأخير والتي أعطاها صفة ” الأدلة”، والتي يرفض حزب الله حتى الساعة تسليمها لمكتب التحقيق الدولي، أن المعركة الدائرة ليست فقط معركة تعطيل للمحكمة الدولية شل لعملها، إنما هي أيضا معركة نفوذ “مموهة” بين الحزب والدولة اللبنانية. على رغم أن ما يجري يتلاحم تماما مع شائعة تهمة موجهة الى مجموعة من عناصره ويسير على وقع خطاها.
لكن الظاهر شيء والباطن شيء آخر، ومعركة حزب الله واسعة الأفق والتطلعات. و بين معركة “تحافظ “على الوجود وأخرى “تشرّع” إثبات الوجود تمهيدا “لفراغ مطلوب”، الفرق شاسع وبعيد.
ومع أن السيطرة الكاملة على مقدرات الدولة ليست من ضمن مخططات حزب الله على المدى المنظور، إلا أن ما يطمح إليه حاليا هو تعطيل دور الحكم والحكومة “غب الطلب” مهولا بالفتنة ومهددا بنسف الإستقرار وأمن البلاد، متوسلا قدرته على افتعال الأزمات التي تمكنه من إحكام قبضته للضغط على المؤسسات و بالتالي إستعمالها كأداة طيعة رهن إشارته لتفعيل دوره في مواجهة الشرعية الدولية المرتبط “حُكما” بمهمة التصادم معها ألموكلة إليه من قبل ايران، والتي دخلت مباشرة على خط الصراع العدلي القائم بين الحزب الذي تموله وتدعمه بكافة الوسائل المتاحة حفاظا على موقعها الإقليمي والمحكمة الدولية المتّجهة، وعلى ذمة الراوي، لاستصدار قرار إتهامي يطال بعض كوادره، كي تثبت بذلك قدرتها البعيدة المدى على إفشال المساعي العربية و إسقاط رسالة ” التطمين” السعودية – السورية التي أنتجت بعض التهدئة المرحلية.
إلا أن ما فات جهابذة الملاحظات والتحفظات والممانعة أن ما سردته وقائع تلك المعلومات سيوسع من حجم علامات الإستفهام حولها ويبقيها على ذمة ساردها حين لا تسلم الى الجهات المعنية بدراستها، والتي سارعت الى المطالبة بها رسميا قاطعة الطريق على محاولات التشكيك بالتحقيق ونسف المحكمة الدولية.
وما فاتهم أيضا أن اتهام اسرائيل لن يرهب أية جهة لبنانية او يمنعها من مناقشة مدى صدقية تلك المعلومات في حال عدم الإقتناع بصحة ما ورد فيها.
وأن منظومة التخوين والإتهام بالعمالة التي أخفت في غياهبها أطناناً من الحقائق على مدى سنوات الوصاية قد باتت من الماضي يوم قالت الأجهزة الأمنية أللبنانية كلمتها أسقطت الصورة المبهمة لنوعية “الجهات المتعاملة” محددة معالم وخطوط إلتزاماتها.
ما فاتهم جميعا أن الألف كيلوغرام وأكثر من المتفجرات التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري كانت موجودة في منطقة وصفها أمين عام حزب الله بنفسه أنها كانت يومها منطقة عمليات لعناصر من حزب الله في “مهمة محددة”. وعلى مسافة ليست ببعيدة عن “البوريفاج” مقر مخابرات بلاد الشام ومحطة ” الترحيب بالسياديين” اللبنانيين. وأن المياه الإقليمية اللبنانية كانت في حينها تحت سيطرة و مراقبة القوات السورية، والشاطئ في عهدتها، وأن مساحة الحركة المتروكة لحلفاء دمشق كانت على وسع وامتداد مساحة لبنان بالكامل برا وبحرا وجوا.
والذين قرأوا جيدا ما ورد في معلومات السيد عادت بهم الذاكرة تلقائيا الى اليوم الثاني لارتكاب جريمة العصر يوم طالب بعضهم بردم الحفرة التي أحدثها الإنفجار، وكأن شيئا لم يكن. وعندما لم يستطيعوا ردمها، تلاعبوا بأدلتها.
عادت بهم ألذاكرة الى سلسلة “التخريبات” على سير العدالة الدولية و التي حاولوا من خلالها دفن الحقيقة تحت نفس الركام الذي غطى جثث الأبرياء.
إتهام اسرائيل يريح كاهل لبنان من مساحات دموية لا قدرة لأي طرف على تحملها، وثبوت التهمة عليها أضحى صلاة اللبنانيين اليومية.
و لكن تبقى المقارنة مفتوحة بين الأدلة والمعلومات، و يبقى الجدال قائما بين الراوي المرتبك والحقيقة المرتهنة حتى إقران الإتهام بالإثبات والإحتكام الى أدلة دامغة لا تندرج في خانة المعلومات العامة.
فالمطلوب محاكمة المجرم كائنا من يكن، وكائنا من تكن الجهة التي تقف خلفه. وليس المطلوب محاكمة الشهداء وترهيب أولياء دمائهم.
ألمطلوب محاكمة القاتل، وليس تهديد الوطن بالدمار في سبيل رفع المسؤولية ونفي التهمة.