تستخدم العرب عبارة ” كـأن على رؤوسهم الطير” لوصف حالة تتسم بالسكون والترّقب والانتظار. وقد جاءت العبارة من حقيقة أن صائدي الطيور لا يحركّون ساكناً عندما تكون فوق رؤوسهم لئلا ينتابها الخوف فتفر منهم. لهذه العبارة وظائف مجازية كثيرة. وربما كانت من بين الأوصاف المحتملة لمشهد الناس في القاهرة يوم الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
كل من يعرف القاهرة لا يستطيع تجاهل ذلك الضجيج الهائل، الذي يصم الآذان، ولكنه سرعان ما يصبح جزءاً من أثاث وإيقاع الحياة اليومية. وبهذا المعنى لم يكن يوم إعلان النتائج مختلفاً عن غيره من الأيام. ومع ذلك، كانت مشاعر السكون والترقب والانتظار معجونة بشيء آخر اسمه الخوف. وكانت هذه كلها أشد حضوراً، وأعلى صوتاً، وأبلغ صمتاً، من ضجيج الشوارع والميادين العامة.
شهدتُ ذلك اليوم في القاهرة: يسارع ملايين من البشر إلى بيوتهم بعد انتهاء المشاغل والالتزامات والهموم اليومية، تعطّلت الكثير من المصالح، ومؤسسات أغلقت أبوابها، في العيون قلق واضح، وأوضح منه اقتصاد في الكلام. في ميدان التحرير أمواج بشرية هائلة، وعلى رؤوسها الطير، طير الانتخابات واسم الرئيس القادم.
لم أكف عن تأمل تلك العبارة في ذلك اليوم، وعن التفكير في معنى أن تكون مشاعر السكون والترّقب والانتظار معجونة بالخوف. الخوف من الاحتراب الأهلي، واتهام جماعة الأخوان المسلمين للمجلس العسكري بتزوير الانتخابات، خاصة وأن إشاعات كثيرة أضفت على مشهد محتمل ما يشبه سيناريو يوم القيامة.
في المساء الذي سبق وقوف الطير على رؤوس المصريين، في مصر كلها، كنتُ في “ريش”، المكان الذي تجتمع فيه سمات المقهى الثقافي، والمنتدى السياسي، وتُسمع في جنباته لغات وأصوات مختلفة، يختلط فيها الحاضر بالماضي، وتسكنها استيهامات متسامية وهموم دنيوية خالصة.
في ذلك المساء كان البعض مسكوناً بما يشبه طقس “العشاء الأخير”. وقد حاول “آلان غريش”، محرر “لوموند ديبلوماتيك”، (الذي يتكلّم العربية بلهجة مصرية، ويستعين عليها بالفرنسية والإنكليزية لتفسير ما لم تطاوعه العامية على تفسيره) تبديد مخاوف بعض المثقفين المصريين من فوز مرّشح الأخوان المسلمين: إذا كانت هذه إرادة الشعب، فإن الإيمان بالديمقراطية يستدعي قبولها.
ويمكن، الآن، وبأثر رجعي، وبعد كل المياه التي جرت في النهر، منذ مساء “العشاء الأخير”، القول إن ما يبرر الكلام عن أناس “وكأن على رؤوسهم الطير” لم يتبدد بل تجدد في سياق الصراع على تعريف وتوظيف ما وصفه ماكس فيبر “بالماضي الأزلي الذي لا يكف عن الحضور”، ويتجلى في حاجة الناس إلى قائد منذ حياة الكهوف، وحتى زمن الدولة الحديثة.
كل ما عرفته البشرية منذ الثورة الفرنسية يتمحور حول تحرير فكرة “القائد” من وهم المُخلّص، وتحويل “القيادة” إلى وظيفة مدفوعة الأجر كغيرها من الوظائف العامة، التي تحكمها معايير وضوابط تُعرَّف بموجبها الحقوق والواجبات، وصلاحية العقد ومدته الزمنية. عملية التحرير هذه، وضرورة العقد، هما في جذر كل مدارس الفكر السياسي الحديث، وفي صلب كل محاولة لتعريف معنى الدولة.
ويمكن قياس النجاح الذي تحقق على مدار قرنين من الزمن والصراع، استناداً إلى حقيقة أن لا أحد، تقريباً في عالم اليوم (ما عدا استثناءات قليلة ومُحرجة) يجادل في جدوى أو ضرورة، أو صلاحية، المعنى الجديد للدولة، بل ويمكن العثور في محاولة قوى، مفرطة في رجعيتها، لتأويل بعض تاريخ مجتمعاتها السياسي واللاهوتي القديم كدليل على وجود أصيل لمفاهيم كهذه في ميراثها التاريخي، على دلائل إضافية تعزز هذا النجاح.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بمصر، فإن مصر من الحالات النموذجية في العالم، وهي الأولى والأهم في العالم العربي، التي يتجلى فيها معنى الدولة/ الأمة. وفي هذا النموذج يُعتبر التماهي مع سلطة “الحاكم” باعتباره رمزاً للدولة/ الأمة جزءاً من التعبيرات العفوية، غير السياسية، عن الروح الوطنية، وعن معنى المواطنة. وحتى في أقصى صعيد مصر، وفي أوساط لا تمثل السياسة جزءاً من لغتها اليومية، فإن عبارة من نوع أن هذا الشيء أو ذاك يهدد مصر يمكن أن تستدعي ردة فعل تكاد تكون غريزية لدرء خطر محتمل.
ومنذ إنشاء الدولة المصرية الحديثة، تحوّل ما أسميناه، هنا، بالتماهي، والتعبيرات العفوية عن الروح الوطنية، وهوية المواطنة، إلى مصدر لشرعية “الحاكم”، و”الحكم”، وتوّلت المدارس الحكومية، وأجهزة الإعلام المركزية، وبيروقراطية الدولة، مراقبة وتحصين وتطويع مصدر الشرعية هذا. وإذا شئنا الكلام عن مفتاح للتحوّلات الكبرى في تاريخ مصر، فلنقل إن نشوء تناقض، أو وقوع شرخ، بين التماهي مع سلطة “الحاكم” من ناحية، وبين تعبيرات الروح الوطنية، ومعنى المواطنة من ناحية أخرى، يسحب الشرعية من “الحاكم”، الذي يصبح مصدر تهديد لمصر، وعندئذ تصبح الثورة مسألة وقت.
وإذا كان ثمة من ملاحظة أولى بخصوص ثورة يناير المصرية (وهي تاريخية بكل المقاييس، ولن نعرف معنى تاريخيتها قبل سنوات، وربما عقود) فلنقل إنها أنضجت مفردات ومضامين التماهي وتعبيرات الروح الوطنية ومعنى المواطنة، منحتها لغة جديدة، وقذفت بها في معترك الممارسة السياسية، وجعلت منها جزءاً من الصراع على هوية الدولة. وهذا غير مسبوق. وفي سياق غير المسبوق هذا يحتدم الصراع على هوية الدولة المصرية الجديدة.
يطلقون في مصر اسم “حزب الكنبة” على الغالبية العظمى من المصريين، الذي لا يشاركون في المظاهرات، ولا يتحزّبون لأحد. والواقع أن هؤلاء هم الذي حسموا المعركة مع مبارك. وهم، أيضاً، الذين لا تحتل قائمة همومهم مفردات من نوع “الدولة المدنية”، أو “الشريعة”، بل الأشياء التي أخرجتهم بالملايين للإطاحة بمبارك: الخبز والكرامة والعدالة الاجتماعية. وليس من السابق لأوانه القول إن مشكلة الإسلام السياسي الحقيقية مع هؤلاء، وعلى عاتقه تقع مسؤولية إقناعهم بأنه لا يمثل تهديداً لمصر. وهؤلاء اليوم في الشوارع والميادين والمكاتب والمعامل والحقول وأمام التلفزيون، وكأن على رؤوسهم الطير.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني