“يواجه أبناء المجتمع القبطي في مصر الأسابيع الأولى من عملية صياغة الدستور – التي يتم خلالها الاتفاق على الخطوط العريضة لتلك الوثيقة – بدون أن يكون لهم زعيم يحظى بالنفوذ للتعبير عن صوتهم.”
فوفاة البابا شنودة الثالث في 18 آذار/ مارس تركت مجتمع الأقباط المسيحيين في مصر في وضع يشوبه عدم اليقين السياسي في لحظة فارقة. وما كانت وفاته لتأت في لحظة أسوأ من هذه، رغم توقعها منذ فترة طويلة. ومع اجتماع لجنة الدستور في مصر التي تتألف بصفة أساسية من إسلاميين وتقوم بصياغة دستور ما بعد مبارك، فإن مجتمع الأقباط – الذي يُشكل نحو 10 بالمائة من السكان في مصر – هو بلا قيادة. ورغم أن أداء البابا شنودة قوبل بآراء متباينة، لا سيما بشأن قضايا تتعلق بعقيدة الكنيسة، إلا أنه كان مفاوضاً متمرساً مع الدولة المصرية نيابة عن مجتمع الأقباط، حيث كان يضغط بلا هوادة للحصول على حق بناء الكنائس وحماية الدولة لمسيحيي مصر المستضعفين. وإذا لم يحل محل شنودة زعيم قوي آخر بصورة سريعة، فليس من المرجح أن يأخذ الدستور الجديد في الحسبان مخاوف الطائفة القبطية – وهو الدستور الذي يتولى صياغته مائة فرد منهم ستة فقط من الأقباط.
الخلفية
أصبح البابا شنودة الثالث – واسمه الحقيقي نظير جيد – بابا الإسكندرية رقم 117 وبطريرك سائر أفريقيا في عام 1971، بعد فترة وجيزة من انتخاب أنور السادات لرئاسة مصر. وكان سلف شنودة – البابا كيريلس السادس – على علاقة بالرئيس جمال عبد الناصر، حيث أفادت تلك العلاقة النظام المصري والأقباط على حد سواء. فمن جهة أجاز ناصر وساعد في تمويل كاتدرائية القديس مرقس في القاهرة، ومن جهة أخرى قدم كيريلس دعم الأقباط السياسي للرئيس القومي العربي.
أما علاقة شنودة بالرئيس السادات فقد كانت أكثر إثارة للجدل. ففي عام 1981، وعقب أشهر من قيام صراع طائفي ورفض شنودة التنازل لمطلب السادات بأن يُرسل قساوسة أقباط إلى القدس في رحلة لبناء السلام، ألغى السادات القرار الذي يؤكد تعيين شنودة في منصب البابا، وقصره على دير وادي النطرون، وعيّن هيئة ثلاثية من الأساقفة لإدارة مجتمع الأقباط. وبسبب تعنته، تم إنزال رتبة شنودة وقصر مسؤوليته على الدير لمدة أربع سنوات. وعندما تم الصفح عنه في عام 1985، أعاد الرئيس حسني مبارك تعيينه ليصبح بابا، وفي تلك المرحلة تبنى شنودة موقفاً أكثر تصالحاً تجاه النظام.
ومع ذلك، لم يمتد سكونه السياسي إلى الشؤون الداخلية للكنيسة الأورثوذكسية القبطية. فعلى سبيل المثال بعد أيام فقط من تكريسه بابا أصدر شنودة قراراً يحظر الطلاق في جميع القضايا بخلاف الزنا. ورغم أن ذلك القرار لم يدخل حيز التنفيذ إلا أن شنودة جعل إصلاح الأحوال الشخصية واحداً من بين أولوياته الرئيسية. وفي عام 2008 نجح في إضافة المزيد من التقييد للحالات التي يتم فيها منح الطلاق – من الحالات التسع المبينة في قانون الأحوال الشخصية القبطي الرسمي لعام 1938 إلى ثلاث حالات فقط. وقد جعل قراره آلاف الأقباط في وضع قانوني مُحيِّر، حيث كانت الدولة تُصدر لهم طلاقاً مدنياً بينما رفضت الكنيسة منحهم طلاقاً دينياً، وهو مطلب مسبق وأساسي للزواج مرة ثانية.
ولم يلق ذلك القرار قبولاً شعبياً. ورغم أنه قد تم في وقت لاحق رفع دعوى قضائية ضد البابا، فاز فيها المدعون، إلا أنه لم يتم مطلقاً تنفيذ ذلك الحكم لأن البابا – الذي هو ليس موظفاً مدنياً – لا يخضع لتفويضات الدولة.
كما أن العديد من الإصلاحيين انتقد جهود شنودة لإضفاء طابع المركزية على السلطة داخل مجتمع الأقباط. فهو لم ينزع فقط سلطة المجلس الملي المُنشأ خصيصاً لموازنة سلطته، إلا أن شنودة هيمن أيضاً على الإدارة الدينية والمالية للكنيسة عن طريق ضمان اختيار مسؤولين موالين له. وبالإضافة إلى ذلك، واصل ممارسة وعد الدعم السياسي لنظام مبارك من قبل مجتمع الأقباط مقابل الحصول على تصاريح من الدولة لبناء كنائس وغيرها من الامتيازات. وبذلك، كان يُنظر إليه على أنه الصوت الشرعي الوحيد لهذا الطائفة وممثلها في جميع تعاملاتها مع الدولة، مما أدى بصورة أكثر إلى عزل الليبراليين والإصلاحيين الأقباط، الذين يتهمون الكنيسة بالفساد والرجعية والفشل في حماية مجتمع الأقباط من الهجمات الطائفية. ورغم الإجراءات المركزية من جانب شنودة، إلا أن الطائفة القبطية أصبحت اليوم أكثر تشرذماً مما كانت عليه منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي.
النظرة المستقبلية
على الرغم من هذا الجدل، ظل البابا شنودة يحظى بشعبية كبيرة. فقد أمضى عقده الأخير يضغط من أجل تحقيق الإصلاح في عدد من المجالات المثيرة للخلاف، مثل السماح للبطريركية ببناء كنائس دون الحصول على تصريح خاص من الدولة واستبعاد الأقباط من قانون الميراث الشرعي، وإقرار قانون موحد لجميع المسيحيين في مصر. وكانت هذه الإصلاحات جميعاً قيد التنفيذ عندما تمت الإطاحة بمبارك في شباط/ فبراير الماضي، لكن وضعها الحالي غير واضح.
وبالنسبة للمسيحيين الأقباط في مصر، فإن صياغة دستور جديد تمثل فرصة لمواجهة بعض من هذه القضايا، أو على الأقل لإنشاء هيكل تعالج فيه الدولة مطالبهم. وبعد بيان ما سبق، فإن لجنة الدستور المكونة من 100 شخص تضم عدداً قليلاً من الأعضاء الذين يرجح أن يكونوا متعاطفين مع مطالب الأقباط. وفي الواقع أن ستة فقط من بينهم هم من المسيحيين – اثنان منهم أعضاء في “حزب الحرية والعدالة” التابع لـ جماعة «الإخوان المسلمين». وقد حاول البابا وهو على فراش الموت أن يستخدم ما تبقى له من نفوذ سياسي لضمان منح المزيد من المقاعد للأقباط في تلك اللجنة، إلا أنه لم يتمكن من ذلك.
وبالنظر إلى ضعف تمثيل المجتمع القبطي في لجنة الدستور، فإن أفضل فرصة لهم لتحقيق الإصلاحات المنشودة قد تكون من خلال إبرام نوع من الصفقة مع أعضاء في اللجنة الحالية. لكن هذا لن يحدث إلا إذا اتفق الأقباط على الأولويات. وفي مؤتمر عُقد مؤخراً حول الدستور الجديد، رأى اليساريون الأقباط أن حقوق المواطنة الفردية والمساواة أمام القانون بغض النظر عن الدين، هما الأمرين الأكثر أهمية، فيما تحدث القساوسة الأرثوذكس حول حل المشاكل المتعلقة بقانون الميراث والطلاق. وفي غضون ذلك، تشير الأدلة القصصية إلى أن الحصول على حق بناء الكنائس دون الحصول على تصريح من الدولة يمثل أهمية لجميع الأقباط المصريين تقريباً. غير أنه من أجل ضمان الإصلاحات التي يضغطون من أجلها، سوف يحتاج العلمانيون والمتمسكون بالتقاليد إلى العمل معاً لأنه رغم تمتع قادة الكنيسة بنفوذ أكبر داخل المجتمع القبطي، إلا أن اليساريين الأقباط غالباً ما يكونون أفضل في التواصل مع المجتمع المصري بشكل أوسع. ونظراً لانسحاب ما يزيد عن عشرين من المسيحيين واليساريين والإصلاحيين من لجنة الدستور بسبب عدم كفاية التمثيل، قد يجد المجتمع القبطي أن التفاوض والضغط الخارجي هما الوسيلتان الوحيدتان المتبقيتان لهم، ما لم يتم حل اللجنة الحالية وانتخاب لجنة جديدة.
من هو البابا القادم؟
في أحسن الأحوال، سوف يختار الأقباط زعيماً قوياً متمرساً من الناحية السياسية ليصبح البابا 118 للكنيسة الأورثوذكسية القبطية لكي يقود الكنيسة والمجتمع عبر فترة مالتحول السياسي المضطربة خلال الفترة القادمة. غير أن الإجراءات الحالية لا تسمح للكنيسة بفعل ذلك. فمن الناحية التقليدية، إن الانتخاب هو عبارة عن عملية متعددة الجولات تشمل اقتراع المجمع الكنسي المقدس والمجلس الملي العام. وهذه الانتخابات تُضيِّق النطاق وتقصره على ثلاثة مرشحين، ويتم اختيار الفائز عشوائياً من قبل طفل معصوب العينين. ورغم شيوع المزاعم بتزوير الانتخابات حتى في المرحلة الأخيرة، إلا أنه من غير المؤكد أن يفوز المرشح الأكثر شعبية.
على الرغم من أن المجمع الكنسي المقدس عيّن المطران باخوميوس زعيماً مؤقتاً للكنيسة، إلا أنه يفتقر إلى سلطة البابا. ومن ثم سوف يواجه مجتمع الأقباط الأسابيع الأولية من عملية صياغة الدستور – التي يتم فيها الاتفاق على الخطوط العريضة لتلك الوثيقة – بدون زعيم يحظى بالنفوذ ويستطيع تقديم شكاوى رسمية إلى “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” أو المساومة بفعالية نيابة عن الأقباط. ونظراً لأن تعداد الأقباط يقل عن 10% من مجموع السكان، فإنهم لا يشكلون ثقل موازنة لـ جماعة «الإخوان المسلمين» والسلفيين الذين يسيطرون على ما يقرب من 75 بالمائة من البرلمان والذين عينوا لجنة الدستور. إلا أن غياب صوت فعال للأقلية القبطية على الطاولة سوف يقلل بشكل أكبر من فرصة تمثيل الدستور المصري لجميع المصريين وتوفير الحماية لهم. إن غياب هذه الوسائل الحمائية القانونية – بحكم القانون وبحكم الأمر الواقع – البالغة الأهمية لن يضر بالأقباط في الداخل فحسب – إذا لم يوفر الدستور الجديد الحماية الكافية للمسيحيين في مصر – بل سيكون مصدر إزعاج إضافي للعلاقات الأمريكية المصرية التي تشهد صعوبات فعلية في عهد ما بعد مبارك.
إيما هيوارد هي مرشحة للدكتوراه في جامعة بنسلفانيا، وقد عادت مؤخراً من القاهرة حيث كانت تجري بحث عن الإصلاحات القانونية القبطية.