بعد الإعلان في لبنان عن استشهاد العسكريين الذين خطفهم “داعش” في العام 2014، ثمّة امران لا يحتاجان الى ايّ توضيح من ايّ نوع. يتعلّق الاوّل بان بلدة عرسال كانت مستهدفة دائما وذلك منذ ما قبل بدء التفكير في مشروع “سوريا المفيدة”. امّا الامر الثاني، فهو مرتبط بمستقبل لبنان نفسه، أي بالتعايش المستحيل بين الجيش والقوات الأمنية المختلفة من جهة وميليشيا مذهبية مرتبطة بايران تسعى الى ان تكون صاحبة القرار في البلد من جهة أخرى.
لماذا كانت عرسال ولا تزال مستهدفة؟ الجواب بكلّ بساطة انّها تمتلك موقعا استراتيجيا مهمّا فضلا عن ان لدى خراج البلدة حدودا طويلة مع سوريا. الاهمّ من ذلك كلّه ان اهل عرسال من السنّة في منطقة يعتبر “حزب الله” انّه يجب ان تكون تحت سيطرته الكاملة. يأتي مفهومه للسيطرة من منطلق تكريس وجود حدود مفتوحة بين المناطق التي يعتبرها “مربعات امنية” في لبنان من جهة وكلّ المنطقة المحيطة بدمشق، بما في ذلك الطريق الذي يربط دمشق بحمص وحماة وصولا الى الساحل السوري من جهة اخرى.
لا يمكن لإيران، التي تسعى الى تكريس وجودها في منطقة سورية قريبة من لبنان تؤمّن لها السيطرة بطريقة او باخرى على دمشق، ان تقبل باقلّ من وجود ممر آمن لها بين سوريا ولبنان. هذا كلّ ما في الامر. هذا ما يوضّح ما لم يعد في حاجة الى ايّ توضيح، خصوصا في مرحلة ما بعد استقبال عرسال وجرودها آلاف السوريين الذين فروا بسبب ممارسات النظام اوّلا ثم بعد سيطرة “حزب الله” على قرى وبلدات عدّة، بما في ذلك القصير، لتأمين الطريق بين دمشق وحمص تحديدا.
ما فعلته الحكومة اللبنانية منذ العام 2014، عندما اشتدّت الضغوط على عرسال، يتلخص بانها حمت البلدة وأهلها الذين لا يمكن الشكّ بان اكثريتهم الساحقة تدعم الجيش وقوى الامن. الأكيد ان ليس اهل عرسال الذين جاؤوا بـ”داعش” و”النصرة” الى مناطق في جوار بلدتهم والى داخل البلدة احيانا. الأكيد أيضا ان لا علاقة لاهل عرسال بخطف العسكريين اللبنانيين الذين خطفهم “داعش”. هؤلاء خطفوا في العام 2014 خارج عرسال واقتيدوا الى الأراضي السورية. ليس الجيش الذي قصّر في استعادة العسكريين. من قصّر كان المزايدون الذين حذروا بالصوت والصورة، بعيد حصول الخطف، من أي تفاوض مع “داعش” من اجل تأمين اطلاق الرهائن.
لا يمكن للمقصّرين الذين فعلوا كلّ ما يستطيعون لسدّ الطريق على ايّ مفاوضات مع “داعش” ادعاء حرصهم على أرواح العسكريين. الجميع يعرف ان “داعش” تنظيم إرهابي يتبيّن كلّ يوم ان علاقته الأساسية هي بالنظام السوري وهي علاقة تقترب من ان تكون عضوية. لا يمكن للذين وضعوا كلّ العراقيل الممكنة لمنع استعادة العسكريين التهرّب من المسؤولية. كلّ شيء واضح وكلّ المواقف التي صدرت في تلك المرحلة مسجّلة. كل التواريخ معروفة. معروف متى بدأ اصلا التحرّك لمنع حكومة تمّام سلام من تحقيق ما كانت تصبو اليه… أي اطلاق العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى “داعش” بعيدا عن عرسال.
لا شكّ ان “حزب الله” يمتلك آلة إعلامية متخصصة في قلب الحقائق، بما في ذلك الترويج لروايات من النوع الخيالي للتغطية على المجرمين الذين كانوا وراء تفجير موكب رفيق الحريري. لا يمكن الّا الاعتراف بانّ الحزب بارع في ذلك. الدليل انّه استطاع تمرير ما يريد تمريره على عدد كبير من اللبنانيين، خصوصا على مجموعة من المسيحيين السذّج الذين يعميهم حقدهم على كلّ ما هو سنّي او درزي في البلد. هؤلاء اشخاص لا تحرّكهم سوى الغريزة والافق الضيّق الذي منعهم من استيعاب مدى خطورة ان يكون في لبنان سلاح غير شرعي لدى ميليشيا قررت، بناء على طلب إيراني مباشر، المشاركة في الحرب على الشعب السوري.
في وقت، يسعى رئيس الوزراء سعد الحريري الى تجنيب لبنان مزيدا من الكوارث والمآسي عبر زيارات لبلدان مثل روسيا يمكن ان يفيد المسؤولون فيها في معرفة النتائج التي ستترتب على إعادة تشكيل سوريا، هناك محاولة واضحة لتكريس امر واقع في لبنان. ليس الضجيج الذي يستهدف توجيه اللوم الى حكومة تمام سلام وسعد الحريري نفسه ووزير الداخلية نهاد المشنوق سوى حلقة في حملة تصبّ في منع لبنان من ان تقوم له قيامة.
في النهاية، وفي مناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لاغتيال الرئيس بشير الجميل، يكتشف اللبنانيون ان بلدهم لا يزال مهددا. بغض النظر عن اعتراضات كثيرة على طريقة انتخاب بشير رئيسا او عن الأخطاء التي ارتكبت في مرحلة حمل فيها قسم من المسيحيين السلاح واساؤوا الى شخصيات تمتلك فكرا مستنيرا وبعد نظر مثل ريمون اده، يبقى ان بشير اغتيل لانّه كان قادرا في 1982 على لعب دور توحيدي في لبنان. كان هذا الدور يقضي في البداية بإعادة الحياة الى الجيش كمؤسسة وطنية تسيطر على كل الأراضي اللبنانية.
تندرج الحملة على الرئيسين سعد الحريري وتمام سلام والوزير المشنوق، وهي حملة تقوم على تزوير الحقيقة والواقع في سياق الترويج لشعار “الشعب والجيش والمقاومة” لتبرير بقاء لبنان “ساحة”. من يدرك خطورة هذه المعادلة التي تعني وضع الجيش في مصاف ميليشيا مذهبية، معروف لمن هو ولاؤها، لا تعود له حاجة الى أي بحث عن الوضوح.
في 2017، يعود لبنان الى جدل عمره نصف قرن تقريبا. بدأ هذا الجدل قبل توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كان عنوان الجدل وقتذاك، عندما بدأ السلاح الفلسطيني يتسلل الى كل منطقة لبنانية، “الدولة والثورة”. هل من تعايش ممكن بين الدولة اللبنانية والثورة الفلسطينية؟ تبيّن ان هذا التعايش مستحيل. جلب السلاح الفلسطيني الذي كان استثمارا للنظام السوري في عملية القضاء على الدولة اللبنانية الاجتياح الإسرائيلي الذي أدى الى تدمير كبير والى ما هو اخطر من ذلك. ادّى ايضا الى حرب الجبل التي خلفت جروحا عميقة طاولت نسيج المجتمع اللبناني.
الى اين سيأخذ الاصرار على “المعادلة الذهبية” المسماة “الشعب والجيش والمقاومة” بلدا اسمه لبنان، خصوصا في مرحلة إعادة تشكيل سوريا والاصرار الايراني على وجود فيها مع ربط لهذا الوجود بالاراضي اللبنانية؟
هل هذا السؤال واضح لدى اللبنانيين، جميع اللبنانيين… ام ثمة حاجة الى توضيح اكثر بعدما تبيّن بالملموس ان هناك وضوحا ليس بعده وضوح في لبنان.