قبل يوم واحد فقط من رحيل العام 2009 وبدء العام الجاري، خطفت يد المنون الرئيس الإندونيسي الأسبق عبدالرحمن عبد الواحد أثناء تواجده في إحدى مستشفيات جاكرتا للعلاج من أمراض السكري والقلب والفشل الكلوي. وبهذا إنطوت صفحة من صفحات تاريخ كبرى البلاد الإسلامية سكانا، كان فيها الراحل، رغم عجز جسده وضعف بصره، بطلا لا يشق له غبار في القتال من أجل ما يؤمن به دونما مواربة أو نفاق أو محاباة لهذه الجهة أو تلك.
و بطبيعة الحال سيكتب التاريخ عن واحد أو “غوسدور” كما عرف في أوساط الجماهير، أنه أول رئيس لأندونيسيا ينتخب إنتخابا حرا ديمقراطيا من بعد ثلاث رؤساء جاؤوا إلى السلطة بطرق ملتوية أو في ظل ظروف غير طبيعية. غير أن الأهم من ذلك ما سيكتب عنه لجهة إيمانه العميق بالتعددية السياسية والعلمانية كشرطين أساسيين لنهوض بلاده وتقدمها. هذا على الرغم من أنه كان وريث إسرة دينية و يقود حزبا إسلامي التوجه لكن بوجه متسامح ورؤية معتدلة لا تقصي الآخر غير المسلم ولا تضطهده ولا تلغي حقوقه كمواطن.
كان بمقدور واحد أن يقدم لوطنه أشياء كثيرة خلال فترة رئاسته القصيرة (21 شهرا) التي بدأت عاصفة وإنتهت أيضا عاصفة، غير أن التركة كانت ثقيلة وكبيرة. ذلك أن ما رسخه سلفه الديكتاتور أحمد سوهارتو – بالتعاون مع بطانته وأفراد أسرته وجنرالات جيشه وأعضاء حزبه الحاكم – في مفاصل الدولة والمجتمع الإندونيسي من صور الفساد والنهب والمحاباة والتمييز والقمع خلال ثلاثة عقود من حكمه الديكتاتوري كان عصيا على المعالجة في ظل ديمقراطية ناشئة وأحزاب متباينة الأهواء وجماعات إنفصالية ترنو إلى تمزيق الكيان الإندونيسي الموحد، خصوصا وأن السنوات الأولى من إستقلال البلاد في ظل زعميها الأول أحمد سوكارنو ذهبت هباء دون أن تسمح بتطوير قواعد الدولة الحديثة ذات المؤسسات الدستورية المنيعة والإقتصاد المتين كنتيجة لسياسات الأخير الإرتجالية وإنصرافه إلى الشعارات الهوجاء ومحاربة طواحين الهواء بإسم التصدي للامبريالية وتطبيق الإشتراكية الوطنية تارة والترويج للحياد الإيجابي والمحافظة على السيادة والإستقلال تارة أخرى.
وهكذا لم يتمكن واحد الذي كان قد وصل إلى قصر مرديكا الرئاسي تحت شعار “ريفورمسي” أي الإصلاح من تحقيق أجندته، وبالتالي شهد عهده الكثير من الإضطراب والشد والجذب، معطوفا على الإفٌتتال الطائفي والأعمال الإرهابية وتزايد نفوذ الإسلاميين، وإنتشار الفضائح المالية.
على أن كل هذا، وغيره ( مثل مهادنته لنظام سوهارتو في وقت من الأوقات من أجل تجنيب شعبه المزيد من القمع) لم يحجب عن أعين الإندونسيين دور الرجل الفعال في إسقاط الديكتاتورية السوهارتية، ثم دوره لاحقا في تشييد قواعد العهد الديمقراطي الجديد.
ولعل أفضل دليل على مكانة الراحل في نفوس مواطنيه – رغم خلفياتهم الإيديولوجية والثقافية المتباينة – أن موته وحدهم فجاؤواء من أقاصي البلاد لتشييعه في موكب مهيب تقدمه الرئيس الحالي “سوسيلو بامبانغ يودويونو” (رغم عتبه على واحد بسبب لجؤ الأخير في عام 2005 لتشكيل إئتلاف معارض ضده بإسم الأرخبيل اليقظ المتحد)، إضافة إلى الرئيسة السابقة/ زعيمة حزب أندونيسيا الديمقراطي السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري التي كانت يوما ما نائبته في رئاسة الجمهورية، بل التي تصادمت معه في أكثر من منعطف وقضية. ليس هذا فقط، وإنما أيضا إجماع الكثيرين من ساسة إندونيسيا وقادة الرأي فيها على تسمية واحد كبطل قومي وإعلان يوم ميلاده مناسبة وطنية.
والمعروف أن واحد المولود في بلدة “جومبنغ” بشرق جاوه في عام 1940 لعائلة محافظة، تولى قيادة تنظيم “نهضة العلماء” في عام 1984 ، وهو التنظيم الذي كان جده العلامة “هاشم الأشعري” قد أسسه قبيل إستقلال البلاد في عام 1949 ورعاه ورسخ جذوره في الأرض حتى صار واحدا من أكبر التنظيمات الإسلامية في الثمانينات، بل صار صاحب قواعد شعبية فاقت الخمسين مليون نسمة. ومما لا شك فيه أن قيادته لهذا التنظيم الكبير منحه نفوذا كبيرا وصوتا مسموعا للدفاع عن التعددية ورؤيته الخاصة حيال الكثير من القضايا الإسلامية والأحكام الشرعية والفقهية. تلك الرؤية التي كانت مثار جدل كبير بسبب خروجها على المألوف ومحاولتها المزج ما بين الحداثة والموروث. كما أن ذلك النفوذ المتأتي من قيادته لتنظيم ديني جماهيري سمح له شخصيا بدخول عالم السياسة الشائك، على الرغم من تشدده المبدئي حيال إنغماس تنظيمه رسميا في السياسة، من منطلق أن الدين والسياسة خياران شخصيان.
وفي عام 1998 إصيب واحد بجلطة كنتيجة لتداعيات مرض السكر، الأمر الذي سبب له ضعفا شديدا في البصر و تثاقلا في المشي و الحركة. غير أن ذلك لم يوهن من عزيمته لجهة مقاومة السياسات الأمنية البشعة لنظام سوهارتو الذي راح خلال عقد التسعينات يسعى وراء القيادات الإسلامية الكبيرة في الداخل من أجل عقد تحالفات معها كوسيلة لتجميل صورة نظامه في الخارج. وبدلا من أن يرضخ واحد لمساومات سوهارتو، عقد تحالفا سياسيا مع الخصم اللدود للأخير ممثلا في إبنة بطل الإستقلال أحمد سوكارنو (السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري). ذلك التحالف الذي كان بمثابة اللبنة الأولى في تجييش الجماهير ضد نظام سوهارتو المترنح وقتذاك تحت وطأة تداعيات أزمة 1997 النقدية الآسيوية.
ومما لا جدال فيه أيضا أن إمتلاك الراحل لرؤية منفتحة وضمير متسامح، رغم ترعرعه في عائلة دينية محافظة، وفي بلد الجل الأعظم من سكانه مسلمون، كان أحد نتائج تنقلاته في بيئات مختلفة وإختلاطه بأصحاب ثقافات متباينة، فضلا عن وجود ميل شخصي مبكر لديه للقراءة المتعمقة في مختلف المجالات والإستمتاع بالموسيقى والفنون والرياضة. ذلك الميل الذي عزاه الكثيرون إلى ما رسخه فيه والده عبدالواحد (المناضل في صفوف الحركة الوطنية من اجل الإستقلال وأول وزير للشئون الإسلامية في تاريخ إندونيسيا المستقلة)، وجده لأمه زليخة “بشري الشنشوري”، ومعلمته الماركسية في مدرسة “الليسيه فرانسيه” بجوكجاكرتا في الخمسينات التي شجعته على مطالعة كتب لينين بالانجليزية
حيث نجد في سيرته الذاتية أنه تنقل في سنوات تعليمه الأولي ما بين المدارس القرآنية التقليدية والمدارس العصرية الأجنبية، ثم تنقل خلال مرحلة تعليمه الجامعي ما بين جاكرتا وعاصمتين من أكثر العواصم العربية إنفتاحا وإزدهارا في الستينات (القاهرة وبغداد). وأنه إلى جانب إنشغاله في تلك العواصم بالدراسة وتثقيف الذات، إنشغل أيضا بالسينما والغناء والصحافة وتعلم اللغات وتكوين الصداقات مع الطلبة المغتربين من شتى الجنسيات، والإطلاع على مؤلفات كبار رواد الفكر الليبرالي ومتابعة السجالات الفكرية في الصحافتين المصرية والعراقية باللغة العربية التي أتقنها وأجادها قبل حصوله في عام 1963 على منحة مجانية للدراسة في جامعة الأزهر.
ومن هنا لم يكن غريبا أن ينصرف الرجل بعد عودته إلى إندونيسيا من الشرق الأوسط إلى الإشتغال بالتعليم وإدارة المدارس والمعاهد والجامعات من أجل تخريج كوادر متخصصة، ومنفتحة على علوم العصر ومتسامحة إزاء الآخر. كما لم يكن غريبا أن ينصرف الراحل لاحقا إلى الإشتغال بالسياسة وتقديم نفسه كزعيم فصيح ذي مواقف صريحة وجريئة أمام الأصوليين والمتشددين، وشخصية ذات أفكار حرة ونشاط مكثف ضد الأدلجة والمؤدلجين.
نعم! لقد كانت للراحل أخطاء، بل سلسلة متتالية من الأخطاء التي أثارت الرأي العام ضده وأفقدته المصداقية في وقت من الأوقات. وفوق ذلك راح الرجل يعالج كل خطأ بخطأ أكبر دونما إكتراث بالانتقادات الموجهة إليه، حتى أن أحد المعلقين العرب كتب عنه ساخرا: “يبدو أن ما يقال عن الرئيس الإندونيسي واحد هو عن واحد تاني”. فواحد أخطأ مثلا بتردده في ضرب آل سوهارتو منذ البداية، فتركهم يعيثون في البلاد فسادا وتأجيجا للقلاقل. وحينما قرر ضربهم بعد فوات الأوان كانت النتيجة هو تواري إبن الديكتاتور السابق عن الأنظار ليواصل مهامه في التحريض والتخريب من تحت الأرض. وهو أخطأ أيضا حينما إعتمد سياسة المراوغة والحلول الوقتية لمواجهة أزمات متفاقمة كانت تحتاج إلى الحسم السريع. وهو أخطأ ثالثا حينما حصر إتصالاته ومشاوراته في دائرة ضيقة من الأتباع والأقارب ممن وضع فيهم ثقته وترك لهم الحبل على الغارب، فكانت النتيجة أن إستغل بعض هؤلاء تلك الثقة وضعف الرئيس البدني في تمرير ما يحلو لهم من إجراءات بغية الكسب غير المشروع وتحقيق مصالح خاصة.
على أن التاريخ لن ينسى لواحد أنه بدأ ونجح إلى حد بعيد في إنهاء الدور المزدوج للمؤسسة العسكرية في الحياة المدنية الإندونيسية وتحجيم إمتيازات جنرالاتها وتقليص نفوذهم. وسيذكر التاريخ له أيضا أنه كان أول رجل مثقف ثقافة عالية ينتخب لإدارة بلاده، حيث كل من سبقوه – بإستثناء الرئيس الإنتقالي “بحر الدين يوسف حبيبي” – لم تكن مؤهلاتهم الدراسية تتعدى الشهادة الثانوية. كما سيذكر التاريخ له أن الهم الإقتصادي شغل حيزا واسعا من تفكيره وذلك من منطلق أنه لا سبيل أمام إندونيسيا للحفاظ على وحدتها الوطنية والتخلص من شبح التفكك والتطرف والعنف إلا بتوفير الحياة الكريمة الآمنة والحقوق الإجتماعية المتكافئة لعشرات الملايين من الجياع والعاطلين والمهمشين والمحبطين. أما الهم الآخر الذي شغل مساحة كبيرة أيضا من تفكيره فقد كان كيفية إعادة الوهج للسياسة الخارجية الإندونيسية وعلاقات بلاده مع العالم الخارجي ولا سيما مع العملاقين الآسيويين الكبيرين الهندي والصيني واللذين تعامل معهما سوهارتو بسلبية غير مبررة طيلة 32 عاما من عهده الأسود.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh