سؤال عادة ما يُطرح في الوسط السياسي والفكري: هل تستطيع حركات الإسلام السياسي التعايش مع الديموقراطية؟
تجربة الربيع العربي أكدت أن العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، رحّبت بوصول الإسلاميين الى سدة الحكم، واشترطت للوقوف إلى جانبها التعهد بالإلتزام بالحد الأدنى من قيم الديموقراطية، والتقيّد قدر الإمكان بآلياتها. ومن أبرز تلك الآليات: القبول بتداول السلطة، والاقرار بالتعددية السياسية والثقافية، واحترام حقوق الإنسان، ونبذ العنف. وبالطبع هذه الأمور لن تتحقق إلاّ من خلال تقليل حشر المطلق والمقدس في الشأن العام على الرغم من أنها لا تزال في طور الاختبار.
عضو أساسي في نادي الإسلام السياسي، أي الاخوان المسلمين، استطاع أن يفرض نفسه على مرحلة الربيع. ويعود ذلك إلى عوامل عدّة، أبرزها توافقه مع شروط المرحلة وظروفها، وقدرته التنظيمية في حشد الجماهير إلى جانبه. فمن خلال ديناميته الفكرية تمكّن من أن يحط فيها بقدميه.
يأتي بعد الاخوان عدد من الحركات السلفية الجديدة، التي أعادت قراءة بعض أدبياتها، وتراجعت عن بعض مفاهيمها السياسية الفكرية لصالح الديموقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون، أي لصالح المرحلة الجديدة والحياة الحديثة. برز ذلك بوضوح في تجربة التغيير بمصر.
في المقابل، كانت لتجربة الربيع العربي جولة مع حراك علماني مناهض للديمقراطية ولحقوق الانسان، ومؤيدوق الشعوب بذريع لفكرة استحواذ النخب بصورة ديكتاتورية وبمساعدة العسكر على حقة مواجهة المد الأصولي التاريخي. برز ذلك بشكل واضح وصريح جدا في مصر أيضا وبتأييد مجاميع علمانية كثيرة في الوطن العربي، ما أصبح هذا البلد نموذجا للحراك العلماني المناهض للديموقراطية، أو بعبارة أخرى أصبح نموذجا لشعار الديموقراطية من دون وجود ديموقراطيين ومن دون اعتراف بحق التعددية السياسية والفكرية ومن دون أي احترام لحقوق الإنسان.
رغم أنّ الكثير من حركات الإسلام السياسي تخفي ما يجب أن يكشف من أفكار ومن أدبيات، وأنّ ما تظهره لا يعبّر عن حقيقة أهدافها، إذ قد تسعى في مرحلة لاحقة من الربيع إلى الدولة الدينية التاريخية، أو دولة “الخلافة”، التي لا تلتقي مع الديموقراطية وقد تستعين بالعنف لتحقيق ذلك. إلا أن التجربة السياسية للاخوان المسلمين – قبل الربيع – ورؤيتهم الواقعية للأحداث والظروف أثبتت بأنهم غير متوافقين مع تلك الأفكار والأدبيات والآليات، بل إنهم طلّقوها. كما أثبتت تجربتهم في السلطة، وبالذات في مصر وتونس، أنهم يختلفون فكريا وأدبيا مع الحركات الدينية المناهضة للديموقراطية، وأنه من الظلم بمكان دمجهم في سلة إسلامية واحدة مع غيرهم من المتشددين والمتطرفين وأصحاب “دولة الخلافة”. كذلك أثبتت تلك التجربة، وخاصة في مصر، بأنهم أقل خطرا على الديموقراطية وعلى الحريات من الكثير من الحركات والشخصيات العلمانية.
هناك من يقول بأن التطور الديموقراطي في بعض الدول العربية يؤشر إلى أن الإسلام السياسي يمكن أن يسلك طريق العمل السلمي عن طريق استخدام الآليات الديموقراطية للوصول إلى السلطة، وأن هذا الخيار يمكن أن يتطور كلما كانت مؤسسات الدولة راسخة وكلما كان المجتمع قويا ومنفتحا ثقافيا وسياسيا وتتنافس فيه تيارات متباينة. إلا أن هناك من يشكك في صحة مثل هذا القول، ويعتقد بأن المشكلة لا تزال تتمثل في التمييز بين وسائل الديموقراطية وبين قيم الديموقراطية. والحقيقة، أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين إذا كنا نسعى إلى دولة ديموقراطية حقيقية. غير أن واقع الأحداث والظروف في دول الربيع العربي يبيّن أن هناك تطورا على صعيد استعانة الاخوان المسلمين بالآليات الديموقراطية في إدارة الحكم، لكن في ظل ضعف مساعي ربطها بقيم الديموقراطية.
فالهيمنة والاستحواذ، ورفض إعطاء الآخر المغاير فرص المشاركة في إدارة البلد، ومنع التوافق السياسي من أن يقوم بدوره المسؤول في احتواء الخلافات في ظل ظروف سياسية واقتصادية كانت تحتّم ذلك، كل ذلك السلوك الاخواني كان واضحا بصورة لا لبس فيها في مصر، الأمر الذي أدى – إلى جانب أسباب أخرى – لنزول المعارضين لحكم الاخوان إلى الشوارع واحتجاجهم على الكيفية التي يدار بها البلد. وبدلا من أن تأخذ الديموقراطية “العرجاء” مسار التصحيح وتتغيّر المسائل في إطار آلياتها، والتي عادة ما تركن إلى حلول عدّة، منها الصندوق الانتخابي، كذلك منها ضغط الشارع، من أجل الوصول إلى حلول مدنية للصراع، إلا أن الظروف أظهرت وجود تحالف علماني عسكري استغل تلك الظروف بشكل ذكي وهيمن على ما يسمى بالعملية “التصحيحية”، منطلقا في ذلك من آلية الالغاء والعنف ما أدى إلى ارتكاب جرائم قتل ونفي وإقصاء ضد مكونات عدة من الشعب المصري.
لقد قدّم المتحدث باسم حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية للاخوان المسلمين، اعتذاره للمصريين بسبب فشلهم في إدارة الدولة. إن ذلك يعتبر تطورا إيجابيا في أدبيات النشاط السياسي لدى الجماعات المستندة إلى الرؤى الدينية، والتي عادة ما ترفض الاعتراف بوجود أخطاء في ممارساتها، استنادا إلى الثقافة الدينية التي تدّعي بأن الأخطاء مؤجلة إلى يوم الحساب. وقال حمزة زوبع أحد قياديي الاخوان في مقالة له “نقدم الاعتذار للمصريين عن سوء أداء الجماعة في الحكم، والتوجه للانفراد بالسلطة، ونقترح خطة مكونة من ثمانية عشر بنداً للمرحلة المقبلة”. إن ذلك يؤشر إلى قدرة الجماعة على تجاوز الكثير من أدبياتها المركونة في خانة المقدس. بل قد يشير ذلك إلى إنكماش دور المقدّس في العمل السياسي، مما قد يحسب لصالح التزام الاخوان بآليات الديموقراطية، ويسهّل من تعاطيهم مع قيمها.
وعليه، نتأمّل من حركات الاسلام السياسي، التي كشفت في مواقف كثيرة عن حنكة سياسية ومقدرة ذكية في قراءة الظروف السياسية واللعب بأوراقها، أن تعي بأن الديموقراطية الحقيقية لا يمكن أن تستند إلى آلياتها فقط بل لا يمكن أن تنفصل عن قيمها. ولكي تستطيع أن تهضم الاثنين – الآلية والقيم – لابد أن تفتح الباب على مصراعيه للمراجعات الفكرية، أي الخوض في تفسير يغربل المطلق في النص الديني ويحوله إلى فهم نسبي قابل للنقد، ويعترف بالتعددية الحزبية والتنوع الفكري، ويحترم حقوق الإنسان. فأدبيات حركات الإسلام السياسي تمثّل أسئلة مزعجة للباحث في الشأن الديموقراطي مما يفتقد معها لإجابات صريحة ومسؤولة تتعلق بالمصالحة مع قيم الديموقراطية، وبالتالي لا يمكن الاستناد إليها لكشف أسرار عدم الرجعية فيها.
fakher_alsultan@hotmail.com
كاتب كويتي