من روزفلت وأيزنهاور إلى نيكسون، كارتر وكلينتون ثم بوش الأب والابن، حفر رؤساء الولايات المتحدة الأميركية أسماءهم على لوحة تاريخ الشرق الأوسط. ومع باراك أوباما الذي استخلص دروس حربي أفغانستان والعراق، تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط وتزامن ذلك مع اقتراب الاستغناء عن النفط والغاز المستوردين من تلك المنطقة، حيث لم تعد تلك الموارد مركزية لأمن الطاقة الأميركي كما في السابق.
كرّس الانتصار في الحرب الباردة الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى وحيدة، وكان القرن العشرون أميركياً بامتياز. لكن نهاية التاريخ المعلنة بتسرّع لم تجمد ديناميكية الحراك الدولي وأخذ الموقع الأميركي يتراجع مع بدايات القرن الحادي والعشرين. ولا تزال واشنطن تحافظ على الكثير من عناصر قوتها عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا وثقافيا، بيد أن تشكيل العالم وفق التصور الأميركي والرغبة الأميركية ليس ممكنا في ظل التحولات المتسارعة وخلط الأوراق في اللحظة الراهنة من العلاقات الدولية.
لذا فإن التحول الاستراتيجي نحو آسيا والمحيط الهادي لا يعني تلقائيا التخلي عن دور أساسي في الشرق الأوسط الذي يتميز بكونه مسرح تجاذبات تقريرية في رسم ملامح النظام العالمي في العقدين القادمين على الأقل.
من خلال حصيلة ولايته الأولى وبدايات ولايته الثانية يبدو أن أوباما سيكون الرئيس الذي تخلى عن دور أميركا التقليدي في زعامة العالم، ربما بسبب شعوره بأن بلاده تفتقر إلى الضمانة الأخلاقية أو الموارد المادية لمواصلة الدور الريادي، خاصة لجهة الاستمرار في لجم المخاطر التي تهدد العالم اليوم.
والملفت أن خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه أوباما هذا الأسبوع يبيّن الخلل في الإرادة السياسية عند ساكن البيت الأبيض، إذ تميّز بتطرق هامشي للسياسة الخارجية مع تغيير سلم الأولويات في النظرة للشرق الأوسط. في موازاة تراجع التأثير الإسرائيلي، برزت العلامة الفارقة في التركيز على المناخ الجديد مع طهران إلى حد التلويح بمنع الكونغرس من فرض عقوبات إضافية عليها خلال فترة التفاوض، وهذا الحماس للانفتاح على إيران قابله تقاعس حيال النزاع السوري، وشبه تجاهل للشأن الفلسطيني.
بيد أن مراقبة خريطة النزاعات ونقاط التوتر والتواجد على الأرض وفي البحار تبيّن لنا مدى الانخراط الأميركي في شؤون “الشرق الأوسط الكبير”، انطلاقا من جنوب السودان إلى اليمن، ومن تونس إلى لبنان مرورا بملفات إيران وأمن الخليج والعراق وسوريا والنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. لا يمكن لبلد بحجم أميركا- ومقدار هيمنتها على الشرق الأوسط منذ منتصف خمسينات القرن الماضي- أن تتملّص من التزاماتها بسهولة وأن تستدير بين يوم وآخر بمعدل 180 درجة.
إنها إذن لعبة الرقص على خطوط التماس والتوازنات بين المصلحة العليا ومصالح الأصدقاء أو الوكلاء، وإنها أيضا المسعى لخلق شراكات أو ترتيب تسويات بهدف التمويه نسبيا على التخبط وعدم القدرة على إدارة الأمور خاصة بعد التخلي عن منطق التلويح بالعصا العسكرية من دون إبراز بدائل مقنعة.
يبدو للمراقب أن الشرق الأوسط تخترقه حاليا أربعة محاور أساسية:
– المحور الأول هو المحور الإيراني الذي يضم العراق والنظام السوري وحزب الله في لبنان.
– المحور الثاني يضم المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والأردن.
– المحور الثالث يضم تركيا وقطر والإخوان المسلمين.
– المحور الرابع يتمثل بإسرائيل.
قبل الترتيبات الأخيرة مع إيران، كانت واشنطن تعطي الأولوية لصلاتها مع المحور الرابع ومن ثم للمحورين الثاني والثالث. ومنذ الخريف الماضي، أصبح بإمكانها الحوار والتفاعل مع المحور الأول وكان ذلك يتم سابقا من خلال تقاطع المصالح خاصة حيال العراق. لكن هذا التحول لا يزال في بداياته وليس من الضرورة أن يكون التطبيع مع إيران مدخلا لتحول عميق يصبح فيه “الشيطان الأكبر سابقا” شريك زعيمة “محور الشر”، كما كانت توصف الجمهورية الإسلامية.
حتى الآن اتضح إصرار الطرفين الأميركي والإيراني على عزل التفاوض بشأن الملف النووي عن المواضيع الإقليمية. لكن هذا العزل غير قابل للاستمرار لفترة طويلة. ومن الأمور الأكثر استعجالا موضوع أفغانستان حيث سينسحب الأميركيون الآن وهم بحاجة إلى الإيرانيين والروس من أجل إتمام ذلك الانسحاب، كما حصل سابقا في العراق. وهذا يفسر جزئيا عدم رفع السقف الأميركي في النزاع السوري والحرص على الاستمرار في مسار جنيف بالرغم من بداياته الصعبة. والأرجح أن تستمر واشنطن في السعي إلى تقاسم العمل مع روسيا، على أن يمارس كل جانب نفوذه عند الشركاء الإقليميين المؤثرين في الساحة السورية.
ومن أجل تفكيك الألغام التي يمكن أن تطيح بالمسار السياسي، سيسعى أوباما لدى لقائه مع بوتين أوائل هذا الشهر في منتجع سوتشي (الألعاب الأولمبية الشتوية) إلى العمل على عدم ترشيح الرئيس السوري نفسه لولاية جديدة بعد 17 يوليو القادم، كي يتم إعطاء كل الوقت للتفاوض وبلورة حل سياسي متوازن انطلاقا من بيان جنيف 1.
في السعي للفصل بين الملفات تتعامل واشنطن مع روسيا على أنها قوة إقليمية في الشرق الأوسط (أولويتها في الساحة السورية)، لكنها ليست قوة دولية في المنطقة. وفي المقابل تسعى موسكو إلى عدم ترك واشنطن تستفرد بثمار أية تسوية مستقبلية شاملة مع إيران.
مع استمرار تهميش العامل الفلسطيني وتحجيم الدور التركي وعدم التنبه لأهمية دور مصر ومجلس التعاون الخليجي، يبدو النهج “الأوبامي” مراهنا في الدرجة الأولى على إعادة تركيب سياسة واشنطن في الإقليم من خلال البوابتين الإسرائيلية والإيرانية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية – المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس