من التاريخ العالمي، القاسي، نعرف حقيقة تتكرر في مناطق مختلفة من العالم. عندما تحدث مجزرة أو عملية “تطهير عرقي”فإن مقترفي الجريمة في البداية يسعون إلى “تناسي” الجريمة، وإلى الخوف الذي يصل حد الرعب، من مجرد ذكرما حدث. ومع مرور الزمن، يعود التاريخ السياسي والاجتماعي والانتروبولوجي إلى الماضي، إلى المجزرة. كأنما مرور الزمن يسمح بالعودة إلى أحداث المجزرة وأبعاد تاريخ ضحاياها!
إننا نشهد في إسرائيل الأمر نفسه. مؤخراً صدر للباحث الدكتور إيلان بابيه، (بالإنجليزية) كتاب مذهل عن التطهير العرقي للعرب الفلسطينيين، خلال الاحتلال للمدن والقرى الفلسطينية في الحرب اليهودية- العربية في فلسطين عام 1948. هذا التاريخ موجع ومفعم بالجراح للفلسطينيين، ولكنه تاريخ موجع أيضاً لليهود لأنه يدفعهم إلى تحمل المسؤولية أو محاولة الهرب من المسؤولية.
ومؤخراً صدر (بالعبرية) كتاب من تأليف البروفسورة يفعات فايس من جامعة حيفا تحت عنوان “وادي الصليب-الحاضر الغائب”
وادي الصليب كما هو معروف، هو المنطقة العربية ذات الكثافة السكانية أيام الانتداب، التي تمتد بين جبل الكرمل ومسجد الاستقلال والكنائس المسيحية في “حيفا التحتا” القريبة من الشاطىء. كان مركز حيفا العربية يقوم في وادي الصليب وفي حيفا التحتا، كان في هذه المنطقة النشاط الاقتصادي والتجاري، وكان الناس خليطاً من الحيفاويين الأصليين والعرب الذين هاجروا إلى حيفا، خصوصاً في فترة الحرب العالمية الثانية، عندما احتاج الانجليز إلى عمال للعمل في معسكرات الجيش البريطاني.
في عام 1948، كما هو معروف ، كان الرحيل /الترحيل الكبير لعرب حيفا. قوات الاحتلال اليهودي- الإسرائيلي، فتحت الطريق أمام عرب حيفا إلى الميناء، ومنه كان يهاجر الناس الفلسطينيون المرعوبون إلى عكا، ومنها شمالاً إلى لبنان، كما هاجر بعض سكان حيفا العرب شرقاً في اتجاه “اللجون” في اتجاه المنطقة التي أصبحت “الضفة الغربية”
حتّى غولدا مئير التي زارت منطقة وادي الصليب سنة 1949 قالت إنها منقبضة جداً وحزينة وقالت إنها تذكرت أيام مشاهد الهدم والدمار..مأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية!
المهم أن السلطات الإسرائيلية كانت تُعطي للاجئين خط مسار في اتجاه واحد-“روحة بلا رجعة” ، كما يقول مثلنا الشعبي المأساوي. خلال عدة أشهر أُفرغت حيفا من أهلها. كان فيها أكثر من 74 ألف عربي فلسطيني لم يبقَ منهم إلاّ 13-15 ألفاً فقط.
حياة اجتماعية إنسانية كانت مستمرة عشرات السنين، تهدمت تماماً خلال سنة الحرب، وصار “وادي الصليب” الذي كان يعج بالحياة الإنسانية العادية منطقة دمار شامل، كما لو كان بعد هزة أرضية ماحقة ولكنها هزة من صنع البشر، لا الطبيعة.
المؤلفة تصف شراسة المشهد، حيث كان يجيء مهاجرون ممن قدموا إلى إسرائيل، خلال حرب 1948 ، ويحتلون البيت الذي يجدونه فارغاً. كان الصراع، بداية، على “البيوت الجميلة ” وبعد ذلك كان الصراع على أي بيت فارغ. وكان هناك “تقسيم طبقي” ،أو “تقسيم طائفي” وفي الحصيلة احتل اليهود القادمون من أوروبا (الاشكناز) البيوت الفلسطينية الجميلة أو الواسعة أو المرتبة. وجاء اليهود السفراديم (الشرقيون) وكانوا مستعدين أن يسكنوا في أي بيت “فارغ”، بلا سكان.”كان هناك فرق –تقول المؤلفة-بين البيت الذي أخذه المهاجر من المغرب، والبيت الذي أخذه المهاجر من أوروبا”.
وتصف المؤلفة كيف أن الأختين هوفمان ويرينا روزنر احتلتا بيتاً في شارع يافا رقم 120 الذي سكنت فيه أخت شحادة شلح الذي كان نائباً لرئيس البلدية قبل الحرب. وهذا الاحتلال للبيت صار واقعاً، أيضاً بعد انتهاء الحرب!
الكتاب مكتوب بروح إنسانية حساسة، ولكن كل الحساسية التي في العالم ليست قادرة أن تصف عملية الترحيل والاقتلاع، عملية هدم حياة إنسانية اجتماعية قومية كانت ممتدة خلال سنين طويلة وخلق واقع جديد، مغاير تماماً، مكانه.
نحن نقول اليوم: كان في حيفا أكثر من (74) ألف فلسطيني وخلال شهور قليلة بقي 12-15 ألفاً. كل فرد من الراحلين هو قصة إنسانية مروِّعة. بقيت البيوت مليئة بالأثاث، مليئة بالمؤن، مليئة بالحرارة الإنسانية. كأنما كانت البيوت والجدران متعانقة مع الذكريات الإنسانية التي هدمتها “الهزة الأرضية” غير الطبيعية، بل الهزة نتيجة الحرب والاحتلال والتغيير الديمغرافي الحاد والسريع.
النراتيف الرسمي الصهيوني يكتفي بالقول إن العرب الفلسطينيين “هم الذين رحلوا”، كأنما رحلوا عن “طيبة خاطر”، ولكن الحقيقة أن كل عائلة فلسطينية في حيفا وفي صفد وفي طبريا وفي يافا وفي عتليت وفي قيسارية وفي مئات القرى الفلسطينية المهجورة عاشت عذاب الرحيل، عاشت عذاب الفراق القاسي، من أرض الآباء والأجداد إلى المجهول.
إن المؤلفة تسرد أيضاً قصة اليهود المغاربة الذين سكنوا في “وادي الصليب” وقاموا عام 1959 بانتفاضة عنيفة ضد النظام الإسرائيلي، نتيجة التمييز الطائفي العنيف ضد اليهود المغاربة. وخلال الانتفاضة قُتل أحد المتظاهرين. وكان ذلك بداية الجرح الذي لم يندمل، بعد، بين اليهود الاشكناز وبين اليهود الشرقيين، خصوصاً المغاربة.
إن الصراع العميق بين اليهود الاشكناز والمغاربة يبدو الآن جانبياً، في ظل النزاع القومي الإسرائيلي-الفلسطيني، ولكن هذا الصراع قائم، مهما حاولوا إنكاره ومهما حاولوا أن يُوَحِّدوا اليهود ضد العدو المشترك- الفلسطيني والعربي عموماً.
هذا الكتاب أغلب الظِّن سيثير نقاشات حادة كما سيثير محاولات للتهرب من الحقيقة بنسيانها المتعمد.
ولكن “وادي الصليب” في حيفا هو جرح مفتوح فلسطينياً، أخ للجراح الإنسانية والقومية الباقية في عشرات المدن والقرى. مقابل “بيت شآن” العبرية توجد “بيسان” في الذاكرة ومقابل طبريا التي أفرغت من الفلسطينيين بقيت ذكريات العرب الطبراويين ومقابل “تسفات” التي صارت يهودية يتذكر الصفديون بيوتهم وكرومهم وقبور آبائهم وأجدادهم، وما زالت البيوت القديمة أعشاش الذكريات الفلسطينية!
إن المأساة الفلسطينية ليست قضية قومية فقط، ليست نزاعاً بين شعوب فقط، بل هي مأساة أناس اقتلعوا وقذفوا في الريح إلى المجهول.
الكاتبة تنهي الكتاب بقصة غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، وكيف أن “خلدون” الطفل الذي تركه أهله ورحلوا صار “دوف” بعد أن تبنته عائلة يهودية .
قصة غسان كنفاني قصة مأساة، قصة حياة لم تصل، بعد إلى نهاية..قصة حلم كبير ينبض بالحياة.