«حلاوة روح» فيلم يعرض في الصالات البيروتية هذه الأيام، وهو من بطولة هيفاء وهبي وإخراج محمد السبكي. قصته بسيطة: فتاة جميلة في حي شعبي، غير مسنودة بأهل أو زوج، وقد هاجر، تتعرض بصورة متواصلة للتحرّش، وينتهي بها المطاف بتعرّضها لحادثة إغتصاب، تدفعها، وهي مسلوبة، إلى ترك الحيّ نحو المجهول. في الشريط تلعب هيفاء وهبي الدور الذي تمارسه في الحياة: إمرأة خارقة الجمال والإغراء، لا تترك رجلاً من دون هيام بمفاتنها ونظرتها وجسمها الخ. وهذا ما تؤكده لنا في الشريط، أو يؤكده المخرج، إذ نراها في مشاهد مختلفة، مرتمية على سريرها، أو ناشرة الغسيل على شرفة منزلها المتواضع، أو متنزهة مع حماتها القاسية وسط الزقاق… إلى ما هنالك من أوضاع، كلها تبرز مفاتن «الديفا» (هكذا تسميها الصحافة الفنية)، وتقنعنا بأنها فعلاً، جوهرة نادرة في عالم الفن الإغرائي، خاطفة للبصر، ومضيعة للبصيرة. ذلك هو السقف الذي بلغه الشريط في قدرته على الإقناع. فباستثناء كريم الأبنودي، الصبي الذي لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر، الذي رسم له الفيلم بداية مسيرة فنية سوف تكون لامعة بالتأكيد، فان المخرج لم يبذل عملياً أي جهد خارج إبراز المفاتن التي تتميز بها هيفاء وهبي عن بقية النساء.
بعد ذلك، لا شيء تقريباً مقنع في هذا الشريط: أولا، البطلة نفسها، حيث يستحيل أن تجد في هكذا حي، فقير ورثّ، امرأة تتمتع بهكذا مواصفات جمالية مصنوعة بالمشرط وأنواع المحقِّنات والمرِّفعات والمدِّهنات الخ. وما يستحيل أكثر هو هندام تلك البطلة: «حجابها» مثلاً عبارة عن قماشة دانتيل أسود حريري، من ذاك الذي ترتديه زائرات البابا… يستحيل أيضا ان تكون كل فساتينها مشقوقة على جانبها أو خلفها، بهذا الكعب العالي، بهذه الأناقة، بهذا الشعر، بهذه الوقفة والغندرة ودلق الشفاه وتذبيل العيون… يستحيل أن تكون إمرأة كهذه، التي تجاوزت على الأقل الخامسة والثلاثين من العمر، على الأقل كما يود الشريط أن يظهره لنا، غير متنبه إلى أن هذه اللقطة، أو تلك، فضحت عمر البطلة الحقيقي، الأبعد عن العمر المفترض في الشريط… نقول يستحيل أن تكون امرأة كهذه قد تزوجت لتوها من رجل هاجر، وبعد أشهر طلقها، وتركها مع حماة قاسية… والأهم من كل ذلك، من غير الممكن أن نتعاطف مع البطلة المظلومة عندما تنتقل من دورها الذي تجيده في الحياة، أي الإغراء، إلى دور المرأة المظلومة المتألمة الملاحَقة. فهيفاء وهبي لا تستطيع الذهاب بعيداً في دموعها وتعابير حزنها أو ضياعها لسببين: أنها، في هكذا مشاهد، عليها أن تكون جميلة أيضا وليس فقط مضطهدة؛ ولتكون كذلك، عليها الإحتفاظ ولو بالقليل من تعابير الإغراء الملتصقة بها؛ مثلاً، المشهد الأخير، حيث تخرج هيفاء من منزلها حاملة حقيبتها، بعد تعرضها، كما أُفهمنا، لحادثة اغتصاب عنيفة، وووجها مدمّى على طريقة البطلة التي تستفيق من النوم من دون أن تنزاح ولو خصلة واحدة من شعرها عن مكانها، أو على طريقة الأفلام القديمة أسود وأبيض، عندما كان الماكيير يمسك بقطنة وبعض المحاليل ويضعها على وجه البطل، هنا وهناك، بحيث يحافظ هذا الأخير على وسامته. هنا طبعاً التقنيات تطورت، ولكن المبدأ بقي على حاله: امرأة اغتصبت لتوها منذ دقائق، أخذت فوراً قراراً بالرحيل نحو المجهول، تخرج من بيتها والكحلة والتمشيطة وأحمر الشفاه والكعب العالي، كله على آخر مليم… مع بقعتين أو ثلاث حمراء اللون موزّعة على وجهها الجميل. وما أضاف إلى هذا الأداء ضعفاً على ضعف، هو وجه هيفاء وهبي نفسه الذي لا يستطيع إلا التعبير عن الإغراء، كأن الإغراء نحته… أما خارج الإغراء فهلاك فني، بكل التجاعيد التي جمدتها حقن البوتوكس و»الكراسي» وغيرها مما لا نعرفه من صناعات جمالية. وهذا سبب موضوعي، لا فني فحسب، يفشل محاولتها الدرامية هذه برمّتها.
حسناً، طالما ان الشريط غير مقنع، فلماذا إتخذ رئيس الوزراء المصري قراراً بسحبه من الصالات؟ مع ان الشريط، من جهة أخرى، لا يقدم التحرش ولا الإغتصاب بصورة إيجابية؛ بالعكس، يدفعنا دفعاً، رغم عدم إقناعنا، بالتعاطف مع الضحية (هيفاء وهبي) ويقدم الأشرار الذين تآمروا على شرفها على أبشع الوجوه. لما اذن؟ الجواب في افتراض صناعة فيلم تدور حبكته حول النقطة الدرامية نفسها، تكون بطلته جميلة ومغرية، ربما أجمل من هيفاء (أم أنه لا يوجد أجمل منها؟) شابة (أم ان الزمن توقف معها؟)، وأكثر موهبة منها في فن التمثيل، تتّقن دور المرأة الذي يلاحقها جمالها كاللعنة، مهما فعلت وتسترت وتحجبت، بل «بشّعت نفسها». ولكثرة ضعفها، هذه المرأة، في حي شعبي يقطنه رذلاء، تتعرض لما تتعرض له هيفاء، أو «روح» في الشريط. وتكون زاوية المخرج كلها تعاطف مع الضحية وإدانة للأشرار. هل سيكون للرقابة ساعتها أمر بسحب الفيلم؟ كلا بالتأكيد. ما الفرق إذن بين «حلاوة روح» وبين الفيلم المفترض هذا؟ هو ان العقلية السينمائية للذين ينصبون أنفسهم حماة للأخلاق، معدومة الخيال، تنظر الى العمل الفني على أنه ترجمة حرفية للواقع، مثلها مثل الإسلاميين الذين يحرمون التجسيدات الفنية بذريعة انها منافسة للخالق؛ أي ان هذه التجسيدات هي إعادة نسخ للواقع، لا تخيله، تخيلا جمالياً أو فنياً. وهم، أي حماة الأخلاق أولئك، لم يروا في الفيلم إلا تحريضاً على التلصلص والتحرش و»هدم الاركان العائلية» الخ. لم تقنعهم، لم تتلبسهم إلا حالة واحدة في الشريط: حالة الإغراء المتمادي، المكرر، الذي تنثره هيفاء أينما ولت. وهو إغراء واقعي، يشبه كليبات هيفاء وطلاتها الغنائية، لا فرق بينها وبين الفيلم إلا بتلك القصة المنزوعة منطقاً ورابطاً وسياق. حماة الأخلاق انبهروا بواقعية الإغراء، وهم بادامتهم لأحكام الإسلاميين القراقوشية، يحولون الإغراء الإفتراضي الى إغراء واقعي. ليس لأن هيفاء وهبي هي ملكة الإغراء فحسب، إنما أيضا لأن كهنة الإخلاق لم ينتبهوا، مثلهم مثل المواطنين من المشاهدين، إلا لتلك الصفة. لم يحرك الشريط مخيلتهم أبعد من ذلك. وهم على كل حال معذورون، لأنهم في حربهم على الإسلام السياسي لا يستطيعون غير استعادة التجارب السابقة، أي محاربتهم أمنيا ومجاراتهم أيديولوجياً.
أما بخصوص هيفاء نفسها، وللذين تساءلوا عن اختيارها الرديء هذا، أو الذين قارنوا بين أدائها في هذا الشريط وبين ما سبقه، أي «دكانة شحاتة»، إخراج خالد يوسف، عام 2009… فيبدو لهم وكأن هيفاء تراجعت كفنانة ولم تفعل سوى الحفاظ على لقبها كأكثر النساء جمالاً وإغراء. هل خانها ذكاؤها التسويقي هذه المرة، هي التي درجت على بيع الهواء والكيمياء؟ الأرجح لا. الأرجح انها كانت هنا، أيضاً، ذكية باختيارها. فالشريط خرج بعد تسريبات عن «جرأته» وتعرّضه لمقص الرقيب، وما أن خرج، وبزفّة إعلامية صاخبة، حتى تعرض لما يعشق كل فنان أن يكون ضحيته: أي الرقابة والسحب من صالات مصر ودول عربية أخرى. وما لحق هذه الاجراءات من أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي بين الذين هم ضد والذين هم مع، مع «اللبنانية» هيفاء والذين «تأكلهم الغيرة من المصريين»؛ وهو سجال رفع من وجود هيفاء في الفضاء الإعلامي والشبكي، وأعاد إحياء الفترة الذهبية لـ»السينما النظيفة» في مصر، عندما كان «يتعاون» مخرجون مصريون مع فاتنات لبنانيات للقيام بأدوار إغراء، حماية لسمعة النجمات المصريات من تورطهن في مشاهد «قذرة».
ثم موقف هيفاء الرصين… وهي وسط ذلك، ما هو الوجه الذي نراه بها؟ وجه المظلومة الذي لا تتقنه؟ أم وجه المغرية، الذي يسيل كالماء؟ طبعاً الثاني، هو الوجه المقنع، غير المفتعل. إنها ضربة معلم، خلدت هيفاء بها، وفي شريط رديء من النوع «المقاولتي»، ذكراها في مخيلتنا؛ أجمل وأبدع ما خلقه الله من طاقات إبداعية إغرائية. وبذلك أصابت هيفاء وهبي وأنجزت. أما لماذا هيفاء وهبي بالذات؟ صاحبة كل هذا الحظ؟ في هذا الوقت بالذات؟ وهذا النمط من الإغراء بالذات؟ فهذا موضوع آخر…
dalal.elbizri@gmail.com
[المستقبل->
http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=614881]