في كل مرة يعبّر فيها مواطن سوري عن رأيه، ويمارس فيها حريته كاتباً أو متكلماً وفي ظل حالة إعلان قانون طوارئ وأحكام عرفية قرابة خمسة وأربعين عاماً متواصلة، يواجَه هذا المواطن الآبق من قبل الجهات الرسمية بتهمٍ، أقلها توهين نفسية الأمة وإضعاف عزمها وأكثرها التخوين والارتباط والعمالة للأجنبي، وما بين الأكثر والأقل من التهم يبرر النظام الأمني لنفسه ضرب مواطنيه تحت الحزام بالاعتقال والزجّ بهم في غيابات سجون سمّاها باسم معالم مقدسة أرضاً من مثل معتقل فرع فلسطين أو نساءً لها كل التقدير والتبجيل من مثل سجني صيدنايا وعدرا اللذين حملا اسم مدينتين يرتبط اسمهما باسم القديسة الطاهرة مريم (العدرا) تأكيداً أن مُعارضَ النظام فسادُه ثابت، وتآمره مُثبت وخيانته أثبت وإن كان من الصالحين، وعدته في ذلك جاهزة مجهزة، من أجهزة أمن متوحشة تعتقل، ومدع عام اسمه ليس أوكامبو يتهم، وقاض يا حسرة على هالقضاة يؤكد سلامة الإجراءات ويحكم، وإعلام يغطي ويبخّر، ومثقفون وقادة أحزاب عروبية وقومية وإسلامية، وليبراليون ومحافطون يباركون الديكتاتورية والفساد، ولئن سألتهم حجتهم قالوا: دعماً للمقاومة والممانعة ولمنازلة أعداء الله والأمة وانتصاراً للوطن.
نقول هذا الكلام بعد ثلاثة أسابيع من اعتقال هيثم المالح المحامي الأبرز الذي وقف نفسه للدفاع عن قضايا معتقلي الرأي والفكر وبالتهمة المعتادة والجاهزة طبعاً، من نشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة، التي يعتقد أنها وجهت له وهو من هو استقامةً وكرامةً ودفاعاً عن الحريات والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، إثر بعض كلام قاله على فضائية سورية، كان من أهم ما قال فيه:
الوضع المأساوي للناس هو في كل جوانب الحياة، وليس فقط في جانب الحريات العامة وحقوق الإنسان، فالفقير يزداد فقراً، والغني يزداد تخمةً في دولة غنية، ابتُليت بالفساد المستشري ونهب المال العام والهَدْر والتبذير من قِبَل السلطة على حساب الشعب وخزينة الدولة.
القوانين في الكتب، والكتب على الرفّ منذ زمن بعيد، والبلد تُدار بواسطة أوامر وبلاغات وتعليمات، وليس في سوريا أي شخص على رأسه مظلة تحميه من عَسْف السلطة وعدوان الأجهزة الأمنية، والقانون لا يُطبَّق إلا على الضعيف بينما القوي لديه عدة وسائط وعدة طرق لعمل أي شيء. ومن يُعتقَل من الفاسدين فهو يمثل الحالات الضعيفة، علماً أن محاربة الفساد تبدأ من الأقوياء على طريقة أن درج البناء يتمّ (شطفه) من الأعلى إلى الأسفل وليس العكس.
القبضة الأمنية في سوريا تشتدّ من شهر إلى آخر، ومن سنة إلى أخرى، وأحوالنا هذا العام هي أسوأ من العام الماضي مع زيادة الاعتقالات.
لا أحد ممن يتحرّك في سوريا في الجانبين السياسي أو الاجتماعي، يعتقد بالعنف أو الثورة طريقاً للتغيير. وإنما هي السلطة التي لديها إمكانيات ضخمة من جيش ومخابرات وشرطة وأسلحة ووسائل قمع، وتتمترس خلف قوانين خارجة عن أي مفهوم حقوقي أو مفهوم عدالة.
ورغم أن فعلة شيخ الحقوقيين السوريين حقيقة لم تكن أكثر من بعض كلام يقوله رجل مودع لدنياه كلها، مسكون بحب وطنٍ يتآكل ويحترق بفعل قوى الاستبداد والفساد وحيتان التشبيح والنهب في إطار إيمانه بحرية التعبير عن رأيه وقناعته حباً وإخلاصاً لوطن مستباح فساداً واستبداداً، فإن ما فعلته الجهات الأمنية باعتقال هذا الرجل الذي يدق أبواب الثمانين من العمر لأمر قميء، وأكبر من الإدانة والشجب والاستنكار، ويؤكد أن الجهات القابضة والممسكة بكل مرافق الدولة ومفاصلها قرابة أربعين عاماً، مابين والد وما ولد، مازالت تؤكد من خلال ممارستها أنها في ريب من سلامة بنائها الذي بنت، وشكٍ من أنه مازال ضعيفاً فاقداً للمناعة، فهو رغم عقوده الأربعة لا يحتمل ولا يتحمّل لمسة أو إشارة، ولا حتى كلمة من نقدٍ أو تصويب خشية انفراط الأمة وذهاب هيبتها. كما يتأكد أن المسؤولين في هذا النظام يحسَبون كل ممارسة لحريةٍ من رأي أو فكر أو نصيحةٍ صيحةً عليهم، ومن ثمّ فهي تكسيرٌ وتوهينٌ وإضعاف لنفسية أمة صامدة ومقاومة وممانعة تجسدت في نظام مستبد، لكنها في الوقت نفسه تتعامى عن عمليات القمع والتعذيب لمواطنيها، ولصوصية النهابين والقراصنة من الهوامير والحيتان، وكأن ليس فيها شيئاً مذكوراً من توهينٍ وإضعافٍ للوطن والأمة.
وعليه، وإذ ينعقد في دمشق في العاشر من الشهر الحالي مؤتمر الأحزاب والتنظيمات العربية والإسلامية والذي تحضره أيضاً بعض الشخصيات العربية والإسلامية، فمن المناسب تذكّر الجميع وتذكيرهم بعشرات الألوف من الأسر المنكوبة في سورية التي ما زالت تعيش محنة تغييب أبنائها أو اعتقالهم أو تشريدهم أو حرمانهم من حقوقهم، وأن سجون مضيفهم مليئة بمعتقلي الرأي وأحرار الفكر ورافضي القمع والفساد، ولعل آخرهم مؤسس أول جمعية سورية لحقوق الإنسان المحامي المالح ابن الثمانين عاماً، ومعتقلي إعلان دمشق وفي مقدمتهم الدكتورة فداء الحوراني، والتأكيد بأن اجتماعهم بلا نتيجة ما لم يتحرك منهم أهل النخوة والمروءة والشهامة لحل مشاكل إنسانية يعاني منها السوريون منذ عشرات السنين، والعمل على إطلاق سراح معتقلي الرأي والفكر والحريات. ولئن عجزوا عن حل مثل هذه المشاكل فهم عن غيرها أعجز، والحر تكفيه الإشارة.
يا ناس..!! يا جماعة…!! يا أهل النخوة والمروءة…!! كان عهد هيثم المالح على نفسه وربه وأمام ناسه ومواطنيه بعدما قضى في سجنه سبعاً عجافاُ من السنين: لقد خرجتُ وعندي إرادة وتصميم أن لا يبقى سجين قد سجن لرأيه أو فكره، وسأبذل لذلك كل جهدي واستطاعتي. ومن ثم ندب هذا الرجل حياته نخوةً ومروءةً وشهامة للدفاع بكلمته وقلمه عن حقه وحق أبناء وطنه في حياةٍ حرةٍ كريمةٍ ترفض فواحش الاستبداد والقرصنة لعتاولة القهر وحيتان الشفط وهوامير النهب.
لقد سجل التاريخ يا أبا أنس لسورية الحديثة أن للحق وللحرية فيها رجال ورايات. شهد الله أنك منهم، وشهد أهل النخوة والمروءة أنك منهم، وشهدت أرضنا وسماؤنا أنك منهم. وسيسجل لك تاريخ كفاحها من أجل الحق والحرية ودولة القانون أنك أحد قادتها وطنية وإخلاصاً ووفاءً ومحبةً لوطن تداعى عليه الشبّيحة والنهابون والقراصنة والقامعون كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
شيخنا الجليل هيثم المالح..!! لو أنطق ربي قيعان سجون الشام لشهدت، ومآذن مساجدها لتشهّدت، ومنارات كنائسها لدَقّت، وحرائرها لتنهّدت وأحرارها لتأوهّت، ولقالت كلها لك ولمن معك في السجون والمعتقلات من كرام الأحرار وأفاضلهم نساءً ورجالاً: لأنكم لستم الفاسدين ولا المفسدين، ولستم اللصوص ولا النهّابين، وإنما الطامحون إلى حياةٍ حرةٍ كريمةٍ لكم ولكل مواطنيكم بعيدةٍ عن القمع والاستبداد والقرصنة، فأنتم في قلوب الأحرار والشرفاء من مواطنيكم ومحبيكم.
ســأله: لماذا ترفض معارضتكم العنف والثورة (القوة العسكرية الباطشة) سبيلاً للتغيير السياسي والاجتماعي؟
فأجابه: بعد أن رأت ومعها جماهير الناس ما فعله هالثوار ومن بعدهم المصححون نهباً وفساداً واستبداداً، تأكدوا أن القوة العسكرية والعنف طريق يوصل إلى حال من الفساد والاستبداد لا توصف، لصوصيةً ونهباُ وقمعاً للبلاد والعباد.