عندما يذهب المرء منا الى دبي فانه سيلمس دون شك المسافة الشاسعة بين دبي ومدينته الطوبائية المحافظة، ستعجبه أشياء ويستنكر أشياء أخرى، إلا أن الإعجاب في الغالب سيكون سيد الموقف، مدينة مزدحمة طوال العام وطول اليوم! آلاف المسافرين يتخذونها محطة قصيرة ليواصلوا رحلاتهم الطويلة بعد ذلك، فيقضون فيها من عدة ساعات إلى 48 ساعة، زخم بشري لا حدود له، عشرات بل مئات بل آلاف البشر في سباق محموم، كل شريحة منهم تريد اغتنام الحرية والرفاه في هذه المدينة لتتخذها مقر إقامة مؤقتة، قد تكون نصف العمر أو كله! ولو كان بيدهم لاتخذوها وطنا نهائيا!
مدينة المال والأعمال، مدينة التنوع والتعدد الديني والعرقي والمذهبي، أنها مدينة الحلم الوردي الجميل.. مدينة أفلاطونية بكل المقاييس، مدينة ليبرالية بكل المعايير، مدينة الحرية، مدينة الليبراليين والدينيين، مدينة الإنسان في القرن الحادي والعشرين ..
عندما ذهبت إليها آخر مرة حاولت مقارنتها ببلادنا فانتابتني انتكاسة! ذلك أن الفرق مهول بين ما نحن عليه وما هم عليه! دبي لا تمتلك إلا النزر اليسير من البترول ونحن نمتلك المليارات من براميله، دبي صحراء مطلة على البحر وبلادنا واحة خضراء منذ القدم، دبي مدينة عمرها لا يتجاوز ال300 عام، وبلادنا آلاف الأعوام! دبي نسبة المواطنين فيها لا تتجاوز ال10%، أما نحن فنتمتع بكثافة سكانية لا باس بها، فنسبة المواطنين في مدننا وقرانا مناسبة للمساحة والموارد وخطط التنمية ! رغم ذلك فان دبي متفوقة في كل شي ونحن متخلفين في كل شي!
ما نزال سلفيين في نظامنا الاجتماعي والديني، ننظر إلى العالم بنظرة المحارب المخالف ونناصبه العداء، ما نزال ندور في حلقة مفرغة، قيمة جلفاء ونظم متهرئة وبؤس حضاري وأنساني ضاربة جذوره في نفوسنا وبيئتنا التي نعتبرها مثالا يحتدا في التميز والتمسك بالدين .
كل يوم يصل إلى دبي أكثر من 800 شخص، يتطلعون إلى العمل والاستقرار في أرجائها الرحبة واغتنام فرصها المتعددة ، مدينة تستقبل الجميع، إذ تجاوزت بإرادة نادرة التراث بتعقيداته والإرث الماضوي المظلم الذي خلفه لنا أجدادنا وآبائنا، عندما تزور دبي تشاهد المرأة الإماراتية وهي ترتدي العباءة التي لم تمنعها من المساهمة في العمل والإنتاج والتقدم، فتراها حاضرة في كل موقع، لم تمنعها عاداتها وتقاليدها وقيمها من الاستفادة من معطيات العصر ومتطلبات التنمية، أما في مجتمعنا فإن المرأة كائن محطم، مهمش ليس له أي دور يذكر في التنمية بكافة أوجهها، إنسان تحت الوصاية! وكل ذلك باسم الدين والقيم والعادات والتقاليد الأصيلة!
مجتمع دبي يقوم على المؤسساتية والإنسانية وتبادل المصالح، بينما يقوم مجتمعنا على الطائفية والتيارية والفئوية، الرجال مفصولين عن النساء باسم الدين والقيم، الشيعة والسنة في صراع دائم باسم أهل البيت والصحابة، التيارات الدينية الحاكمة متشاحنة فيما بينها باسم الحق والعرفان! تقمع كافة دعاوى التجديد والتنوع والتحديث باسم النبي والإمام!
استفادة دبي من إمكانياتها المتواضعة فتحولت إلى ما يشبه الجنة على الأرض، بينما تزخر أراضينا بأضعاف لا حدود لها من الثروة والإمكانيات، ورغم ذلك نعاني من البطالة والتخلف الاقتصادي والإنساني، والانعدام شبه التام للتطور بمعناه الواقعي واتجاهاته العملية البينة.
يعاني مجتمعنا من الانغلاق والتقوقع والنظر إلى الآخر المخالف بازدراء، إننا نرى أنفسنا الحق المطلق ومجتمع الفضيلة والتميز والتمسك بالدين، أما الآخرين فليسوا سوى ماجنين متحللين ماديين، ليس لهم هدف من حياتهم ولا دين يحكمهم ولا قيم يتمسكون بها، نظرة سوداء لكل فرد أو مجتمع يخالف نسقنا الاجتماعي الذي نعتبره النسق الإلهي، وكأننا نتفق مع أتباع الديانة اليهودية في اعتبار أنفسنا شعب الله المختار!
كنت في دبي بصحبة احد الأصدقاء، مررنا على بار قال لي إنهم هنا يشربون الخمر وهذا حرام قطعا، قلت له انه حرام في ديننا وحلال عند غيرنا! فلماذا لا تحترم قيم الآخرين ودينهم؟ ثم مررنا على كنيسة، فقال لي إنهم يمارسون شعائر دينهم الباطلة، قلت له إنها باطل عندنا وحق عندهم فلما لا تحترم الآخرين؟ مررنا على إحدى مراكز اللهو، قال لي أنهم يرقصون ويغنون ويشربون! قلت لهم انه نسقهم ونظامهم الحياتي والجائز في دينهم، فما بالك؟ هنا كنيسة وهناك حسينية، هنا مسجد ينادي مؤذنه بحي على خير العمل وهناك صلاة خير من النوم،هنا امرأة ترتدي الحجاب والى جانبها امرأة ترتدي ما يتوافق ونسقها الاجتماعي الذي جاءت منه وتعيشه الآن بكل حرية في هذه المدينة، هنا يباع لحم الخنزير وهنا يباع لحم الأرنب، لحم الخنزير حرام علينا ولكنه حلال للآخرين، الأرنب حرام على الشيعة ولكنه حلال لمعتنقي المذاهب السنية، لماذا لا يمكنك تحمل أن يعيش الآخر حياته الاجتماعية والدينية والشخصية والثقافية بحرية؟ لماذا تنتابك رغبة عارمة رهيبة بقمع الآخر؟، لماذا عندما نذهب إلى أوربا المسيحية المادية، نشاهد المسجد والجامع والمركز الإسلامي والنشاط الإسلامي بكافة صوره وأشكاله؟ لماذا يحق للمسلمين أن يكون لهم مراكزهم التبليغية والدعوية ومدارسهم ومعاهدهم في وسط تلك المجتمعات المسيحية العلمانية، ونحن في بلادنا نرفض التعددية حتى في نطاقنا الاجتماعي المحافظ؟ نحن أيها الأصدقاء في عصر العولمة والعالمية، تتناول إفطارك في طهران، وغذائك في باريس، وعشائك في نيويورك!
لا تشهد دبي وعموم دولة الإمارات أية صراعات دينية، أو اعتقال وقمع لأسباب دينية، بينما تعج بلادنا بصراعات لا نهاية لها من هذا القبيل، الأمر الذي أذى إلى مسخ هويتنا وتحطيم دواتنا وتحولنا إلى مجتمعات تجتاحنا الأزمات من كل اتجاه .
تقبل المجتمع الإماراتي واقع التعددية، فحافظ على قيمه وتفاعل بايجابية مع الجنسيات الأخرى، بكل ما تحمله من تناقضات اجتماعية ودينية وأخلاقية، بينما ما نزال نخشى من كل شي، مرعوبين من أية دعوة للتجديد والتغيير، نخشى على بناتنا وفتياننا من الانفتاح، كل شي حرام حتى يتبين لنا انه حلال! كل شي مرفوض وممنوع ومحظور في حكمه الأولي، وكأننا نقول : لا نريد شي من هذه الحياة، ولو كان بيدنا لغادرنا الأرض وعشنا في كوكب آخر بعيدا عن بقية البشر، الذين اتبعوا الباطل ووقعوا في حبائل الشيطان، اللهم اعصمنا، اللهم نسألك حسن العاقبة!
في دبي خطط لأكثر من عشرين عاما مقبلة، ومشاريع بمليارات الدولارات، بينما يجتمع البائسين منا (وما أكثرهم) حول إحدى قنواتنا الصوفية وهم يهللون ويكبرون ويصلون! ويترقبوا أن يأتي ذلك اليوم الذي يكونون فيه المذهب الحاكم والدين السائد على الأرض، يشحنهم ذلك الخطيب المفوه بالمزيد فيقول: انه في ذلك الوقت الذي يرونه بعيدا ونراه قريبا سيكون المؤمنين قادرين على أن يطئوا الغيوم بأجسامهم وهي في السماء!
بينما تحاول دبي والإمارات حل كافة مشاكلها التي تقف حائلا أمام طموحاتها التي لا تعرف الحدود في التنمية والانطلاق بخطى حثيثة نحو المستقبل، ننشغل بالماضي السحيق وقضاياه التي ليس لها وجود سوى في ثقافتنا البالية وأنظمتنا المهترئة، لتنعكس أحداثه الدامية وقيمه المتحجرة على واقعنا الحاضر لتجعله امتداد لها، وهكذا يعيش مجتمعنا الحلقة المفرغة والاستهلاك والعبثية والتخبط والعشوائية، فبينما تعلن وزارة العدل الإماراتية بان الطريق سيكون مفتوحا أمام المرأة لتولي القضاء، تنشغل أوساطنا الدينية الحاكمة بقضية كشف المرأة لوجهها من عدمه! وأيهما أفضل صلاتها في بيتها أو في المسجد؟!! بينما يبعث آلاف الطلاب والطالبات لإكمال دراستهم العليا في الخارج، يحرم آلاف من الطلبة والطالبات في المجتمعات الدينية من الدراسة لأسباب طائفية تارة واجتماعية تارة أخرى، فداك طالبا شيعي لا يجوز أن نقدمه على السني رغم تفوقه! وتلك فتاة ليس عندها محرم، فكيف نسمح لها بالخروج خارج بلاد الفضيلة؟ بينما ينشغل سكان دبي والإمارات بقضايا التنمية وتحدياتها على مختلف الأصعدة تنشغل مجتمعات الفضيلة بخطر جوال الكاميرا! وخطر الروافض على السنة، وخطر النواصب على الشيعة!
في دبي التنوع والتعدد، فيها المسلم والمسيحي، فيها السني والشيعي، يأتي إليها السلفيين الوهابيين ليخطبوا في جوامعها ومساجدها، ويأتي إليها السلفيين الشيعة ليخطبوا أيضا في حسينياتها، تعمل فيها شركات أمريكية وإيرانية، وبها مقر لقنصليتي طهران وواشنطن علاوة على وجود الآلاف من رعايا البلدين في عموم دولة الإمارات ودبي خصوصا، ستجد في دبي الأعراق والأديان والمذاهب المتعددة تتناغم مع بعضها البعض في نظام ” القيم المتعايشة” التي طبقته دولة الإمارات ببراعة نادرة، أنها عاصمة الليبرالية والحرية والتعددية في الشرق الأوسط، أنها أيضا حلم المتدينين الذين يعانون الاضطهاد في بلادهم، حيث سيمارسون شعائرهم ويعيشون قيمهم دونما تمييز أو قمع لتدينهم وانتمائهم لمذهب ما.
إنها مدينة الحاضر والمستقبل، مدينة اليوم والغد… كلما زرتها شعرت بالحزن العميق على حال مجتمعي وبلادي، إلا إنني كلما أمعنت النظر في طرقات هذه المدينة وأزقتها اشعر بالتفاؤل، فهذه المدنية بكل ما تحمل من جمال وسحر بناها الإنسان، وان الشعوب الأخرى لقادرة على أن تشيد مثلها في أجواء من المنافسة والتعاون والترابط، وحتى ذلك الحين سأظل أقول هيا إلى دبي، حيث الحرية والتعددية والقانونية والاحترام واسع النطاق للذات الإنسانية .. هيا إلى دبي لعلنا نتعلم منها دروسا في حوار الثقافات وامتزاج الحضارات وتعايش الأديان والمذاهب والقيم.
raedqassem@hotmail.com
* كاتب سعودي
هيا إلى دبي!
كل ما كتب حول التطور التجاري والمالي والاجتماعي عن إمارة دبي صحيح , لكن لنتذكر أن هذه الإمارة فشلت في صنع الإنسان , كما فشلت في التعليم بالإضافة إلى حقيقة أنه لا توجد بها حرية سياسية . هل تستطيع أيها الكاتب أن تسأل حاكم دبي: لماذا لا يوجد لديهم جامعة واحدة جيدة؟ أو لماذا لا تجد مواطنين لا يستطيعون العمل بدون الأجنبي؟ أم نتحدث عن غسيل الأموال , وهي القضية التي لم تبحث حتى الآن !! أما إذا كنا نتحدث عن كثرة المال, فلا أعتقد أن استجلاب المال مشكلة .
هيا إلى دبي!عندما أصف مدينة دبي ( = نيويورك العرب) يعجز لساني عن وصف تلك التجربة العربية الرائدة التي دشنها العبقري محمد بن راشد آل مكتوم فهي كما وصفت وأجدت في مقالتك الرائعة هي تجربة تنموية ليبرالية نادرة في الوطن العربي ، فالعبقري محمد بن راشد استطاع عن طريق التخطيط التنموي المؤسساتي الاستراتيجي جعل حلم دبي واقعا معاشا في الوطن العربي مدينة تتميز باقتصاد عصري ليبرالي معؤلم ومدينة تتعايش فيها جميع أعراق وطوائف العالم وتتميز بقوانينها المرنة المتحضرة ومؤساستها المتطورة الصلبة وبمناخها التعددي هي تكاد تكون المدينة الفاضلة التي نظر لها الفيلسوف الفارابي . فتحية للقائد العبقري محمد بن راشد… قراءة المزيد ..