أحياناً تضطرنا الذاكرة للعودة إلى أمور كان لها أثر بالغ في مسيرة حياتنا على هذه الأرض. ولمّا كان عبدكم الحقير قد وُلد في هذه البقعة الواقعة شرق المتوسّط، فقد ترعرعت، كما غيري، في مكان لا يُحسد عليه المرء، كما يُقال. وها هي الذاكرة الخبيثة تعيدني الآن إلى ما مضى وانقضى من أيام سوالف.
لنبدأ الكلام بإيراد بعض المفردات والتعابير التي شاعت في الخطاب السياسي العربي منذ عشرات السنين، وفي الحقيقة لا زالت حتّى يومنا هذا تحتلّ مساحات من الخطاب العربي. لننظر مليّاً في ما يلي من تعابير: «الكيان المزعوم»، «دولة الكيان»، «الكيان المسخ»، «دولة العصابات»، «الكيان الصهيوني»، «الكيان الصهيوني المسخ»، وما شابه ذلك من توصيفات أغدقتها المخيّلة العربية طوال عقود على دولة إسرائيل التي قامت بقرار أممي، كما غيرها من دول هذه البقعة، بعد جلاء الانتدابين، البريطاني والفرنسي.
لا شكّ في أنّ القارئ النبيه الذي تقدّمت به السنّ يتذكّر مثلي أنّنا ولدنا وشببنا وترعرعنا على مثل هذا الخطاب الذي أقلّ ما يقال عنه إنّه كان بليداً ينهل من موروث بلاغي يميل على الأغلب إلى دغدغة العواطف أكثر منه إلى تحريك الخلايا الرمادية في الأدمغة. فلقد ملأ كل الفضاءات التي اتّصل العرب من خلالها، بدءاً بالمكتوب في الصحافة والمنشورات، مروراً بالمسموع في الإذاعات، عبوراً إلى المرئي في الشاشات، وأخيراً وليس آخراً بركوبنا في هذا الأوان قوافل «الترحال» وارتيادنا الفضاء الافتراضي الجديد.
ففي الوقت الذي كان فيه العرب يتمايلون طرباً وهم يستمعون إلى ما يدغدغ عواطفهم من مثيل «أمجاد يا عرب أمجاد»، أو بلاغات أحمد سعيد النارية في «صوت العرب» التي تهدّد بإلقاء اليهود في البحر، كانت العساكر العروبية تتقهقر هزيمة تلو أخرى، بينما تصرّح زعامات هذه العساكر على الملأ بالانتصارات. لم تكن تلك الانتصارات سوى انتصارات الزعامة التي أفلحت في بقائها المُخلّد على الكراسي لمواصلة استغباء العباد، مصادرة البلاد ومكرسة الاستبداد.
وطوال كلّ هذه العقود الطويلة من تلك «الانتصارات الوخيمة» التي جلبت الوبال على البلدان وأهلها، لم يحصل أبداً أن قام زعيم عربيّ بأيّ شكل من الأشكال بإجراء حساب نفس بسيط. لم يفكّر واحد من كلّ هؤلاء بأن يترك العباد لشأنهم. لم يفكّر بترك المنصب والذهاب مع انتصاراته للانعزال متقاعداً معزّزاً مكرّماً ويفسح المجال للآخرين، ليدلوا بدلوهم في تسيير أمور البشر والبلاد.
وها هي الأعوام والعقود تمرّ على هذه الأصقاع والبلدان وما بدّلوا تبديلاً. وإذا ما عدنا إلى تلك التعابير التي ذكرناها آنفاً فإنّنا نرى أنّها أكثر ملاءمة لوصف أحوال كلّ هذه الأصقاع بالذات من دون غيرها. وما على القارئ النبيه إلاّ أن ينزع العصابة التي تغطي ناظريه وتستر حقول الرؤية. ما عليه إلاّ أن ينظر حواليه ويرى كلّ هذه الكيانات المزعومة. فها هو «الربيع العربي» قد كشف كلّ ذلك الزّيف الذي لفّ هذه الكيانات المسمّاة دولاً. فها هو الكيان اللّيبي، وبعد عقود من اغتصاب القذّافي للسلطة، عاد إلى طبيعته القبلية التي جُبل عليها، وذاكم هو اليمن «السعيد» يرتدّ إلى تعاسته المتجذّرة في نعراته القبلية والطائفية. أمّا عن لبنان فحدّث ولا حرج. فقد انبنى ومنذ البدء على مسطرة طائفية مقيتة لدرجة أنّه من كثرة «الرؤساء» فيه، كما يُطلق عليهم في خطاب اللبنانيين، لا يستطيع هذا الكيان «المزعوم» انتخاب رئيس واحد.
وإذا ما انتقلنا لإمعان النظر في ما يجري في العراق وسورية، فماذا نحن واجدون؟ لقد كشفت الأعوام الأخيرة على العالم أجمع كلّ ذلك الزّيف المتمثّل بهذه الكيانات التي لا يجمعها ببعضها بعضاً سوى الديكتاتوريات التي جذّرت القبلية والطائفية في ربوعها وحكمتها بالحديد والنار. لقد تستّرت كلّ تلك الديكتاتوريات خلف شعارات العروبة، وخلف شعارات الاشتراكية والثورية ومحاربة الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية. لقد كانت كلّ الشعارات كاذبة، وشكّلت كلّ هذه الأنظمة المثال الأقبح على الرجعية العربية بعنصريتها المقتية تجاه الإثنيات الأخرى غير العربية في تلك البلدان. أمّا الشعارات الاشتراكيــة فـــلم تـــكن تعني شيئاً سوى مشـــاركة الطغمة الحاكمة نـهب موارد البلاد.
لقد رفعت الأنظمة شعار فلسطين لإسكات البشر وكبتهم، ومنعهم من المطالبة بالحريات وبالحياة الكريمة في الأوطان. وشكلت فلسطين ضريبة كلامية لحرف الناس عن البحث عن سبل لحلّ قضاياهم الداخلية.
وفوق كلّ ذلك، فإنّ كلّ عربي صادق يعرف في قرارة نفسه أنّ دول الاستعمار تلك التي يلعنها علانية وفي كلّ مناسبة، كانت أرحم على العباد من كلّ دوله بأنظمتها التي تدّعي الوطنية والقومية وما إلى ذلك من توصيفات. بل أكثر من ذلك، إنّ دول الاستعمار الملعونة هذه، هي التي يتقاطر على سفاراتها أملاً بالحصول على جنسياتها بالذات.
أين هي إذن الكيانات المزعومة، أو دول العصابات؟ أليست هذه مفارقة عجيبة غريبة؟ صحيح أنّ هذه الحقيقة مرّة، لكنّها تبقى حقيقة واضحة لا ينتطح بها عربيّان.
الحياة
هواجس طارئة بشأن الكيان المزعوم
أنا من جيل الكاتب. لم يقل إلا حقا. تقييمه دقيق ولن أضيف كلمة واحدة عليه. سلمت يداه.