نشأ التياران القومي والإسلاموي متجاورين منذ أوائل القرن الماضي كمحاولة لتقديم هوية وأيديولوجيا وحركة سياسية بديلة لمفاهيم ونظام “الخلافة الإسلامية” العثمانية المنهارة، وقد استعار التيار الأول أفكاره من أوروبا عصر القوميات في القرن التاسع عشر مع تلقيحها بمفاهيم ووقائع منتقاة من ماضي المنطقة، بينما فضل الإسلام السياسي الرجوع إلى السلف الصالح والتمسك بهوية دينية وتحويل التراث إلى نصوص صالحة لكل زمان ومكان!!
ولتدارك سوء فهم ما نقصده، فإن الحديث عن تيارين لا ينفي احتواءها تباينات حول المسائل المثارة، لكن التياران يتوافقان عموماً في التخلف عن مواكبة العصر وتفهم الواقع العالمي الجديد والقدرة على التفاهم معه، والمبالغة في أوهام تعرض الهوية الخاصة “لمؤامرات الإلغاء” من قوى العدو الخارجي.. ورفض الحداثة والحضارة العالمية الراهنة لادعاء تعارضها مع النصوص القديمة بالنسبة للإسلاميين أو مع ثقافة خاصة متخلفة وجامدة ومنعزلة.. وسقوط التياران في مأزق الصراع الدائم مع الخارج، على حساب أولوية الصراع الرئيسي مع التخلف الداخلي.. فالدعوة للمقاومة والممانعة تتحول لرفض الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتغليب ثقافة الموت المؤدية للانتحار الفردي والجماعي.
يتوافق التياران في العودة لإحياء مفاهيم الماضي السحيق، في مقابل نهضة أوروبية قامت على أنقاض عصر الظلام القروسطي متجاوزة الإقطاع والتخلف والأساطير والخرافات.. على أساس مفاهيم التنوير والإصلاح الديني والنهضة العلمية والصناعية..
يتوافق التياران بالدعوة للتشبه شكلاً بعالم “ينحو للتكتلات الكبرى” لتبرير وحدة إسلامية أو عربية – إسلامية، دون القبول بأخذ مضمون هذه التكتلات الناشئة التي تخطت القوميات والوطنيات والأديان والمذاهب، وتكونت من اجتماع دول ديمقراطية علمانية حداثية توفر حقوق الإنسان وتنمية شاملة لصالح جميع مواطنيها.
تتوافق بعض القوى السياسية للتيارين في “تبني” الديمقراطية في برامجها، فيما يظهر تهافت هذا التبني بتأييد القوميين العرب الجدد والإسلاميين للأنظمة الاستبدادية ذات الخطاب القومي أو المتأسلم: ومنها النظام العراقي السابق ونظام طالبان كأمثلة.. فضلاً عن التعاطف مع التنظيمات الأصولية المسلحة في أعمالها الإرهابية والدعوة “للتفاعل معها في ظل جهد مقاوم مشترك”!! فديمقراطية التيارين درجة متدنية في سلم الأولويات، وجميع تجاربهما في السلطة اعتمدت نظاماً استبدادياً، مما جعل الاستبداد الوسيلة الوحيدة لإنتاج هذه الأنظمة وإعادة إنتاجها في المستقبل.
تأرجحت العلاقة بين التيارين، إذ انتقلا من التجاور أو التلاقي في النصف الأول من القرن الماضي لمواجهة الاستعمار، إلى تصادم حاد بعد الاستقلال واستيلاء التيار القومي على السلطة بانقلابات عسكرية، كما بين النظام الناصري والإخوان المسلمين في مصر، والصراع الدامي بين النظام البعثي والإخوان في سوريا..، إلا أن هذه الصراعات لم تؤد لنهاية التيار الإسلامي طالما يستمد شعبويته من قاع المجتمع المتخلف الذي تسوده المفاهيم القديمة الجامدة والذي يجد في التيار الإسلامي المعبر الأفضل عنه.
لذلك شهدت المنطقة صعوداً للتيار الإسلامي مستغلاً فشل القوميين في تحقيق أهدافهم وانفرادهم بالسلطة وتفضيل مصالحهم على المصلحة الوطنية بالإضافة لتعريض بلدانهم لهزائم كاسحة.. واستفاد التيار الإسلامي من نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية، ومن استخدامه في ظروف الحرب الباردة ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان التي خرجت مجاهدين متمرسين افتتحوا جبهات قتال ضد الآخرين في أرجاء العالم.
الصحوة الإسلاموية المتصاعدة وضعت التيار القومي أمام خيارات مصيرية، فإما استمرار الصراع الراجح لصالح الإسلاميين، وإما ترك مركز الصدارة وقبول الدور التابع وتقديم تنازلات أهمها التخلي عن العلمانية السمة الأساسية للتيار القومي القديم عندما رفض الرواد القوميين الأوائل اعتبار الدين أحد عوامل التوحيد واكتفوا بوحدة اللغة والتاريخ وأضاف البعض الأرض والثقافة والإرادة والمصالح المشتركة.. فيما أضاف القوميون العرب الجدد العقيدة الدينية و”المخزون الحضاري” كبديل عن الحضارة الحديثة.
ورغم التباين في موقفهم من التمسك بالدين كعامل توحيد فقد تحايل البعض على الأمر بصياغات مختلفة مثل: العروبة الوعاء الثقافي للإسلام.. العروبة لا تتناقض مع دور الدين في الحياة العربية..، دون تحديد إن كانت هذه الحياة تشمل نظام الحكم. فيما فضل البعض قبول دور الدين في المجتمع ورفض دوره كمرجع للتشريع.. وهي صياغات تفيد حسب الحاجة للتأرجح بين تحالف التيارين أو تأجيج الصراع بينهما.
أما تيار الإسلام السياسي في المنطقة فلم يجد حاجة لإلحاق القوميين في صفوفه إلا في حالات قليلة، إذ استشعر من القوة والتمكن والشعبوية ما جعله يتخطى التوافق مع التيار القومي والوطني في مواجهة العدو الخارجي الذي يؤرق التيارين إلى درجة تقسيم بلدان المنطقة إلى “دول أرضها محتلة وأخرى إرادتها محتلة”!!. بذلك انتقل التيار للعنف المسلح كما في الجزائر ومصر، حيث خاضت الجماعات الإسلامية المسلحة حرباً مقدسة ضد الدولة والمجتمع بعد تكفيرهما.
التحالف الإسلامي القومي الأقوى في المنطقة هو في العراق حيث التقت بقايا النظام القومي السابق المنهار مع الحركة السلفية في مواجهة الحكومة العراقية والقوات الأجنبية، على أمل استعادة السلطة للحزب القومي “المتأسلم” أو الخلافة الإسلامية للأصوليين، إلا أن الهمجية التي ميزت عمليات التيارين ضد كافة مكونات العراق جعلت قطاعات متزايدة من المؤيدين تنفك عنهم للتعاون مع القوات الحكومية والمتعددة الجنسية لقتال “القاعدة”، الوحش الإسلاموي المنفلت في أرجاء العراق.
كما تضعضع التحالف العام في المنطقة بين الإسلام السياسي السني ومعه أتباع التيار القومي الجدد وبين الإسلام السياسي الشيعي المتحالف مع النظام الإيراني، المتشكل حول الانتصارات الإلهية لحزب الله الذي ورث المقاومة الوطنية القومية اليسارية الفلسطينية واللبنانية في حياتها وحصرها في مذهب محدد. تحول تأييد الطرف الأول له بعد حرب تموز إلى توجيه انتقادات للحزب مع إبداء القلق من توسع النفوذ الإيراني في المنطقة بالإضافة لترويج البعض لمخالفة عقائد الشيعة “لثوابت الدين”!..
بذلك انزلق التيار القومي والإسلام السياسي السني إلى العنصرية ضد من يدعونهم “الفرس المجوس” مع إضافتهم للعدو الخارجي: الغربي الإمبريالي الصهيوأمريكي زائد الصفوي!!، ففي المؤتمر القومي العربي المنعقد في البحرين، عرض شريط فيديو يصف الشيعة إجمالاً في العراق بالعمالة للصفوية، ويصنف إيران وإسرائيل كعدوين على قدم المساواة.. مما يظهر هشاشة المرجعية الإسلاموية المدعاة لوحدة عربية أو إسلامية، فهي لا تصلح كمرجعية لأطراف الإسلام السياسي المختلفة نفسها، فالصراعات بينها أشد مما بين الإسلام السياسي عموماً والقوى الخارجية.
وإذا كانت هناك التباسات تشوب الوضع في العراق ولبنان من حيث الانقسام المذهبي التاريخي في البلدين، فإن تضعضع التحالف بل انهياره الكامل يبدو بأجلى صوره في الصراع الاستئصالي الأخير في غزة بين حماس الإسلامية وفتح وفصائل أخرى وطنية ويسارية وعلمانية رغم وجود المحتل، فالصراع بين التيارين تناحري: “إما نحن أو أنتم”. ومن تداعيات الحدث، المماثل “لهزيمة حزيران” فلسطينية، أن ائتلاف المعارضة الأردنية بين حزب العمل الإسلامي وأحزاب متعددة قومية ووطنية ويسارية يكاد ينهار بعد انقسام أحزابه بين مؤيد لانقلاب حماس وآخر يعتبره جريمة بحق النضال الفلسطيني.
لن نطيل في توضيح مدى الكوارث التي يعد بها تيار الإسلام السياسي مجتمعات المنطقة في المدى القريب وربما تكون أفظع من المصائب التي تسببت فيها الأنظمة القومية الاستبدادية حتى الآن.
لن نخرج من هذه الدوامة المؤلمة إلا بتغليب أولوية الاعتراف بالآخر المختلف الخارجي والداخلي، وأولوية الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات على أي شيء آخر، وإقرار العلمانية كوسيلة رئيسية لإنهاء الصراعات بين المذاهب الدينية المتعددة، والتوافق على أن التناقض الرئيسي في بلدان المشرق هو بين قوى التخلف السائدة حالياً والقوى المدافعة عن الحداثة، وأولوية التنمية على أية صراعات مع العدو الخارجي، وأهمية الانخراط في العولمة والمسيرة الإنسانية الحضارية..
georgecat@mail.sy
*دمشق