مبالغ فيه، وأقرّت به المعارضة مترددة ومتأخرة، ولكن وجود تيّار سلفي قوي في صفوف الثوّار السوريين واقع لا سبيل إلى إنكاره. وهذا أمر مثير للقلق، إلاّ أنه يشكّل جزءاً فقط من صورة بالغة التعقيد. بداية، ليس كل السلفيين متشابهين؛ حيث أن مفهوم السلفية يغطي طيفاً واسعاً من الوسطي إلى المتطرف. ثانياً، توفّر سورية اليوم للسلفيين أرضاً خصبة تتمثل في العنف والطائفية؛ وخيبة الأمل بالغرب، وبالقادة العلمانيين وبالشخصيات الإسلامية البراغماتية؛ إضافة إلى إمكانية الوصول إلى التمويل العربي من دول الخليج وإلى الخبرات العسكرية للجهاديين.
لكنها تواجههم أيضاً بظروف غير مواتية، بما في ذلك وجود تراث إسلامي معتدل، وتركيبة طائفية تعددية، ومخاوف واسعة الانتشار من حرب أهلية شبيهة بتلك التي أحاقت باثنين من جيران سورية. ثالثاً، فإن إخفاق الاندفاعة العسكرية هذا الصيف أحدث رد فعل عكسي ضد المجموعات السلفية التي استحوذت على عناوين الأخبار خلال القتال.
هذا لا يعني أنه ينبغي تجاهل الثقل السلفي. وينبغي على المعارضة أن تواجه مسؤولياتها: في أن تحدّ من نفوذهم، وتوقف الانزلاق نحو الخطاب الطائفي الذي يزداد تطرفاً بشكل مستمر ووضع حد للتكتيكات الوحشية التي تمارسها. وينطبق الأمر ذاته على أطراف المجتمع الدولي الذين يسارعون إلى لوم المعارضة على تجزّئها وتحوّلها نحو التطرف، وهما الأمران اللذان تسبب عجز وضعف هذه الأطراف في تعزيزهما. طالما ظلت بلدان مختلفة ترعى مجموعات مسلحة بعينها، فإن حرباً من العروض والمزايدات ستنشأ، وأي أمل في تنسيق عمل الثوار، وإخضاعهم للانضباط وكبح جماح العناصر الأكثر تطرفاً بينهم سيتلاشى. بعبارة أخرى، فإن القضية لا تتعلق بما إذا كان ينبغي تسليحهم ـ وإذا كان الأمر كذلك، فما طبيعة ذلك التسليح ـ بل يتعلق بعقلنة وتنسيق الدعم المقدم للمعارضة من أجل التشجيع على ظهور طرف محاوِر متماسك، ومنظّم، ويمثل جميع أطراف المعارضة، وبالتالي يكون أكثر تأثيراً في ما سيكون، عاجلاً أو آجلاً، تسوية متفاوضاً عليها. حتى أولئك الذين يقفون مع النظام سيستفيدون من ذلك التطور إذا رغبوا برؤية المأزق العسكري المدمِّر يتحول إلى حل سياسي.
منذ اليوم الأول، يتم التعامل مع مسألة السلفية في صفوف المعارضة ككرة قدم سياسية أكثر منها موضوعاً للنقاش الجاد. داعمو الأسد بالغوا في تصوير حضورها، لقناعتهم بأن ذلك سيخيف الشرائح غير الإسلامية والأقليات في البلاد، وسيخيف أيضاً الغرب، الذي ما يزال يعاني من تبعات مغامرته الفاشلة في العراق. أما منتقدو النظام فقد قللوا من شأنها في محاولتهم المحافظة على صورة الانتفاضة الناصعة؛ كما كان المتعاطفون مع قضيتهم، سواء في وسائل الإعلام أو في مواقع أخرى، غير راغبين في الخوض بعمق في هذه القضية خشية أن يكون في ذلك مصلحة للنظام. وقد كانت النتيجة النهائية قدر كبير من الضباب وقبس ضئيل من الضوء.
وهذا أمر مؤسف، ليس لأن السلفية بالضرورة سمة مركزية، ومهيمنة أو حتى دائمة في المشهد السوري. بل لأن ما من شك في وجودها، ومن المؤكد أنها تتنامى، وأنها تشكّل عامل انقسام وتؤثر بقوة في الديناميكيات الموجودة على الأرض. إنها تؤثر في رغبة بعض الأطراف بتمويل مجموعات المعارضة، وتؤثر في المواقف الشعبية، وعلى الرواية التي سيتمكن النظام من تضخيمها وعلى العلاقات بين الفصائل المسلحة. هذا التقرير، الذي يستند إلى العمل الميداني في سورية والتحليل المنهجي لما يصدر عن المجموعات المسلحة ذاتها، يسعى لإيضاح أصول، وتنامي وأثر التيارات الأصولية في المعارضة.
السلفية السورية أبعد ما تكون عن كيان متصلب منظم واحد، فهي انتقائية ومتغيّرة. في حين أن السلفيين يطبقون نظرياً تفسيرات حرفية للنص الديني تستند إلى سيرة الرسول والصحابة، فإن البعض يمتلك فهماً سطحياً للإسلام، ويفتقر إلى أية رؤية أيديولوجية حقيقية؛ ويسعى آخرون لاستبدال النظام العلماني بشكل إسلامي في الحكم؛ ويعتنق فريق ثالث مفهوم الجهاد العالمي الذي تعتنقه القاعدة. كما تتفاوت بشكل واسع درجات عدم التسامح حيال معتنقي الديانات الأخرى. تُبرز السابقة العراقية مدى أهمية هذه التمايزات وكيف يمكن، على سبيل المثال، للأهداف المحلية للمجموعات المسلحة الرئيسية، بما في ذلك تلك التي لها ميول سلفية، أن تتعرض للتهديد بسبب طموحات السلفيين الجهاديين.
كما أنه ليس من السهل دائماً تمييز السلفيين عن غير السلفيين؛ ففي بعض الحالات، يعكس تبني لغة السلفيين وتعابيرهم، وخطابهم ورموزهم التزاماً حقيقياً بالمثل الدينية؛ وفي حالات أخرى، يعبّر عن محاولة براغماتية للتزلف إلى المانحين المحافظين الأثرياء في الخليج. لم تطوّر معظم المجموعات المسلحة حتى الآن أيديولوجية صلبة أو هيكلية قيادية؛ وثمة تذبذبات في عضوية هذه المجموعات، حيث يتحول المقاتلون من فصيل إلى أخر حسب توفر الأموال، والحصول على الأسلحة، والعلاقات الشخصية ـ بعبارة أخرى، استناداً إلى عوامل لا علاقة لها بالمعتقد.
بالطبع، لا يمكن إنكار الاختراقات الواضحة التي حققتها السلفية ـ التي كانت في البداية نزعة هامشية في أحسن الأحوال ـ منذ بداية الحركة الاحتجاجية. كما أنه ليس هناك تنازع كبير في الآراء حول الأسباب الكامنة وراء هذا التطور. لقد كانت الظروف مواتية؛ حيث كانت الانتفاضة متجذرة في فئة اجتماعية جاهزة ومفصلة على مقاس الدعاة السلفيين، وهي الطبقة الريفية الفقيرة والمسحوقة، التي هاجرت، على مدى سنوات، إلى بيئات حضارية قاسية تنزع السمة الشخصية عن الأفراد وبعيدة عن شبكات الدعم التقليدية. ونضجت الظروف مع تصاعد حدة العنف، وتلاشي الآمال بالتوصل إلى حل سريع، وإثبات التيارات البديلة (دعاة الحوار؛ المتظاهرون السلميون؛ قيادات المنفى؛ والإسلاميون الأكثر اعتدالاً) محدودية تأثيرهم، فاندفع كثيرون بشكل طبيعي إلى البدائل السلفية. لقد أدى تردد الغرب بالقيام بأي شيء في البداية ـ وتردده حتى الآن في القيام بأي عمل حاسم ـ مصحوباً بالرغبة المبكرة لعرب الخليج الأثرياء المحافظون دينياً في معظم الأحيان، بتقديم الأموال، إلى إثراء خزائن السلفيين وروايتهم، التي تبدو فيها أوروبا والولايات المتحدة كشريكين سلبيين متواطئين مع جرائم النظام.
على نطاق أوسع، فإن السلفية قدمت أجوبة لم تتمكن الأطراف الأخرى من تقديمها. وتتضمن هذه الأجوبة شكلاً مباشراً ومقبولاً من الشرعية وشعوراً بالعمل من أجل غاية سامية في وقت حافل بالمعاناة والتشوش؛ وطريقة بسيطة ومباشرة في تعريف العدو على أنه نظام غير مسلم وكافر؛ وكذلك إمكانية الحصول على التمويل والأسلحة. كما استفاد السلفيون أيضاً من تجربة مقاتليهم الذين راكموا خبراتهم في ميادين معارك أخرى؛ فتطوعوا للقتال، وبذلك تشاطروا معارفهم مع المجموعات المسلحة المحلية عديمة الخبرة. في وقت صارعت فيه مثل تلك المجموعات من أجل البقاء ضد عدو قوي وشرس واعتقدت أنها معزولة وأنه تم التخلي عنها، فإن مثل تلك المزايا التي قدمتها السلفية أحدثت اختلافاً ملموساً وفورياً. ولذلك فما من عجب في أنه بحلول كانون الثاني/يناير 2012، باتت السلفية تتبوأ ببطء مكانة أكثر بروزاً على مشهد المعارضة.
لا يمكن للنظام التهرب من حصته في تحمّل الملامة. لسنوات مضت، كان السلفيون بين أولئك الذين زعموا بأن السنة الوسطيين كانوا يواجهون تهديداً خطيراً من إيران وحلفائها الشيعة، وهو تصنيف ضموا إليه العلويين. من خلال الاعتماد المتزايد على الأجهزة الأمنية التي يطغى عليها العنصر العلوي في قمع الانتفاضة التي يطغى عليها العنصر السني، وتلقي الدعم بشكل أساسي من شريكيه الشيعيين (إيران وحزب الله)، فإن النظام قدّم الدليل على هذه الرواية الطائفية، حيث بات كثيرون من خصومه يساوون بين الصراع ضد الأسد والجهاد ضد المحتل.
رغم ذلك، سيكون من الخطأ الاستنتاج أن الميدان متاح تماماً للسلفيين؛ إذ تفخر سورية بتاريخ طويل من الممارسات الإسلامية المعتدلة؛ وقد كانت دائماً فخورة بالتعايش السلمي بين مختلف طوائفها. لقد رأى مواطنوها رأي العين التداعيات الكارثية للصراع الطائفي، حيث دمرت الحرب الأهلية اثنين من جيرانها، لبنان أولاً، ومن ثم العراق. شخصيات رئيسية في الانتفاضة وكذلك في قاعدتها الشعبية تعتنق أيديولوجيات وأهداف متعارضة. الهجمات واسعة النطاق ضد قوات النظام في تموز/يوليو وأب/أغسطس 2012، التي اضطلعت خلالها المجموعات السلفية بدور بارز، انتهت بالفشل، ما أدى إلى تبخر بعض الإيمان الذي كان موجوداً قبل ذلك. كما أن المعارضة واعية تماماً للجوانب السلبية لحضور السلفية، حيث أن صعودها يضفي صدقية على مقولة النظام وبالتالي يبرر قمعه ويثير المخاوف لدى الداعمين الأجانب الفعليين والمحتملين. وفي حين أن السلفية قد تستنفر بعض السوريين، والمتطوعين الجهاديين والرعاة الإسلاميين الخارجيين لصالح قضيتهم، فإنها في نفس الوقت تضعف من الجاذبية الأوسع للمعارضة وتعزز قدرة النظام على تعبئة قاعدته الاجتماعية وحلفائه.
كل ذلك يضع السلفيين في الموقع غير المريح الذي يتمثل، من خلال سلوكهم وخطابهم، في تعزيز الحجة المحورية للنظام الذي يسعون للإطاحة به. كما يفسّر سبب إطلاق المعارضة الرئيسية لعدة حملات ـ غير ناجحة حتى الآن ـ لتوحيد صفوف الثوار، وتعزيز فعاليتهم الكلية أو على الأقل ضبط الآراء الأكثر تطرفاً.
كثير من الأساطير تحيط بالسلفيين في سورية. إنهم لا يمثلون تعبيراً عن الهوية الصحيحة والصادقة للمجتمع السوري؛ كما أنهم ليسوا مجرد منتج ثانوي لمؤامرات النظام؛ وليسوا ببساطة نتيجة للنفوذ المتنامي لعرب الخليج. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يُفهموا على أنهم يشكلون إحدى الامتدادات العديدة للصراع، وأنهم جزء من الأزمة العميقة في الهوية التي أفرزها هذا الصراع. إنهم يشكلون في العديد من الأشكال الوجه الآخر لاعتناق العنف وعبادة العائلة الحاكمة التي ظهرت بين العلويين إلى درجة ملفتة. في كلتا الحالتين، فإن ظهور رؤى متشددة، وأكثر تطرفاً، ونزعة ’ألفية‘ زائفة لا يمكن إنكارها، إلاّ أنها ليست بالضرورة غير قابلة للعكس. إن السلفية كسبب وعرض للعيوب الراهنة للمعارضة، هي كالكثير في سورية، تعبير عن المأزق السياسي والعسكري الدموي الذي يبدو، في اللحظة الراهنة، أنه لن يؤدي إلى العودة إلى الوراء، كما أنه لن يؤدي إلى مخرج.
دمشق، بروكسل، 12 تشرين الأول/أكتوبر 2012
(قام “الشفاف” بتصحيح أخطاء مهمّة في ترجمة التقديم السابق)