بعد الغزو الأثيوبي للصومال واحتلال أراضيه متذرعة بالدفاع عن نفسها ضد تهديدات المحاكم الإسلامية وما تلا ذلك من قصف أمريكي عشوائي للمناطق الجنوبية بادعاء ملاحقة فلول مليشيات المحاكم ومن تؤويهم من الإرهابيين متسببة في قتل مدنيين أبرياء رعاة ومواشيهم، بعد ذلك كله كنا ننتظر من المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته وتصدر الأمم المتحدة قرارا يدين الإعتداء ويطالب إنهاء الإحتلال الأجنبي لبلد عضو فيه. ولكننا فوجئنا بالمنظمة الدولية تبارك الإعتداء وتشيد بالمعتدي. في الثامن من هذا الشهر ذكر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في آخر تقريره عن الصومال لمجلس الأمن بوجود فرصة ذهبية للسلام في الصومال الآن، وقبله سمعنا مبعوثه الخاص يبشرنا مرارا وتكرارا بهدية العمر التي لا تعوض.
وفي آخر لقاء قمة الإتحاد الأفريقي بأديس أبابا في نهاية يناير الماضي تحول الإجتماع إلي احتفال إفريقي للنصر الأثيوبي وتلقي مليس زيناوي القبلات والتهانى من الجميع وأشاد المتحدثون في جلسات القمة بزناوي ودور قواته في إحلال الأمن والسلام في ربوع الصومال. ولم ينس الرئيس المصري حسني مبارك أن يدلي بدلوه وأبدي تفاهمه مع الغزو الأثيوبي للصومال في لقاء مع وزير الخارجية الإثيوبي. أما جامعتنا العربية فلم تنبس بنت شفة وكأن شيئا لم يحدث والسكوت أبلغ من الكلام كما أن المجاز أبلغ من الحقيقة في البلاغة العربية.
هذه النظرة التفاؤلية للأوضاع في الصومال بعد الغزو الإثيوـ أمريكي من جانب الدول والمنظمات الإقليمية والدولية توازيها رؤية أخري تشاؤمية يبديها جل المعلقين والمفكرين والكتاب في المعضلة الصومالية. وتؤكد التقارير الإخبارية خطورة الوضع في البلاد وانفلاتاً أمنياً تسبب في قتل وجرح المئات من المدنيين وهروب الآلاف منهم من العاصمة مقدشو جراء القصف العشوائي المتبادل بين القوات الغازية ومسلحين وصفوا بالمجهولين وإن كانت أهدافهم غير مجهولة.
إذا، وإذا كان الأمر كذلك والأوضاع في الصومال على ما أشرنا إليه من الخطورة والتردي، فلم هذا الإصرار من قبل المجتمع الدولي على تحسن الأوضاع في الصومال وأن الإحتلال قد خلق مناخا مناسبا لإعادة الأمن والإستقرار إلي البلاد مع أن جميع الدلائل والأحداث في أرض الواقع تشير عكس ذلك تماما؟ يبدو أن العالم قد وقع ضحية للدعاية الإمريكية التي قصد منها تضليل الرأي العام العالمي عن الحقائق ومن باب ذر الرماد في العيون لتغطية الإعتداء الإثيوـ أمريكي علي الصومال واحتلال أراضيه.
في السادس من شهر فبراير الماضي مثلت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشئون الإفريقية جنداي فرايزر أمام لجنة فرعية للعلاقات الخارجية للكونغرس للإدلاء بشهادتها حول تطورات الوضع في الصومال. وقالت بشهادة زور واضحة: “للمرة الأولي ومنذ ستة عشر عاما هناك فرصة للصوماليين لإعمار بلدهم ولدينا فرصة حقيقية لمساعدتهم علي تشكيل حكومة قوية تستوعب جميع أطياف المجتمع المختلفة”.
أي فرصة حقيقية يتحدثون عنها؟ السيدة فرايزر تدرك جيدا أن الثورة الشعبية بقيادة المحاكم الإسلامية وليس قوات الإحتلال هى التى نجحت في إعادة الأمن والإستقرار إلى ربوع البلاد، ولأول مرة منذ ستة عشر عاما أحيت الآمال في نفوس الشعب وضخت روحا وطنية جديدة في شرايين المواطنين وبدأت الحياة تعود تدريجيا وتنفس الناس الصعداء بإزاحة قطاع الطرق عن صدورهم. إلا أن تلك التطورات الإيجابية لم ترق للبعض ورأوا فيها خطرا يهدد أمنهم ومصالحهم الوطنية وقرروا وأد هذه الثورة في مهدها ومعها دفن آمال شعب بأكمله تحت دبابات قوات الإحتلال.
القاموس السياسي الأمريكي أصبح غريبا غرابة تصرفاته وسلوكه بعد الحادي عشر من أيلول الأسود إذ اختلطت عليه المفاهيم ويخبط خبط عشواء ويسمي الأسماء بغير مسمياتها لحاجة في نفس يعقوب. ووفقا لهذا القاموس الجديد يعتبر الإحتلال فرصة تاريخية لإعمار البلاد والقوى الوطنية إسلامية كانت أو قومية ما هي إلا جماعات إرهابية يجب إستئصالها قبل أن يستفحل أمرها. أما زعماء ومجرمو الحرب ليسوا إلا رجال سلام يجب مساندتهم بالمال والسلاح لمحاربة قوى الشر والطغيان، ويتحول توزيع القصف العشوائي علي الأحياء السكنية بعد منتصف الليل وترويع الأطفال وأمهاتهم إلي دفاع عن النفس، والفتنة الطائفية ما هي إلا ديمقراطية يحسد عليها من دول الجوار. وهكذا يعمل المنطق المقلوب في قلب الحقائق وهذا سلوك دجالي نسبة إلى الدجال الذي سيظهر آخر الزمان وذكرت الروايات أنه في إحدى يديه ماء والأخرى نار فماؤه نار تحرق وناره ماء بارد.
والأدهى أنهم لا يكتفون بذلك بل يطالبوننا بالتسليم والتصديق مما يذكرنا بقول الشاعر:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
فحذام امرأة عرفت بقوة البصيرة وصدق الفراسة والقول السديد حتي ضرب بها المثل في ذلك، أما حذام أمريكا فيصدق الناس في كل ما تقوله ليس لقوة بصيرتها بل بعضلاتها وقوة ترسانتها الفتاكة يتحالف معها الناس لا حبا لها بل اتقاء شرها.
الصومال إنزلق إلى منزلق خطير وهوة سحيقة لا يعلم مداها إلا هو. فالحكومة الإنتقالية المدعومة من الجيش الإثيوبي فشلت في ملء الفراغ الأمني والسياسي الذي تركته المحاكم الإسلامية في العاصمة ولم تنجح في كسب ثقة الشعب بل هي معزولة تماما ويعمل مسئولوها بمكاتب في فنادق خاصة. وإذا كان هناك أي أمل يرجى لانتشال البلاد من الهاوية التي انجرفت إليها فعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسئولياته ويوقف سياسة التضليل والتمويه ويسمي الأشياء بأسمائها ويقوم باتخاذ خطوتين ضروريتين:
أولا: يدين الإحتلال ويطالب بإنهائه. فالإحتلال ليس إلا هدر للكرامة الإنسانية مهما تدثر بعباءة نشر الديمقراطية أو الدفاع عن النفس ولم يكن في يوم من الأيام أداة لدعم الإستقرار والسلام في البلد المحتل. واستباحة القوات الإثيوبية للأراضي الصومالية لا يشذ من هذه القاعدة فلا ندري لماذا يحاول المجتمع الدولي تجميل وتلميع صورته باعتباره قوات للسلام خلقت فرصة ذهبية فريدة لإنهاء الأزمة المستعصية للبلاد.
ثانيا: بعد إنهاء الإحتلال وليس قبله، يضغط المجتمع الدولي على الحكومة لعقد مؤتمر مصالحة وطنية موسع تشارك فيه جميع القوي الوطنية السياسية الفاعلة في المجتمع ولا بد من وقف أي محاولة لترقيع الحكومة الحالية فقد اتسع الخرق على الراقع ولا يصلح العطار ما أفسده الدهر. وعلى العالم أن لا يغتر بمؤتمر المصالحة الذي دعت إليه الحكومة فهو ليس إلا محاولة صورية القصد منها التلبيس على الدول والهيئات المانحة للقبض على المساعدات المالية؛ إذ أن هذا المؤتمر قد أفرغ من كل مضمون سياسي بتقصير المشاركة فيه على زعماء وشيوخ العشائر وإقصاء الخصوم السياسيين للحكومة.
وهنا يستحق الإشادة والتنويه موقف قوات حفظ السلام الأوغندية التابعة للإتحاد الإفريقي التي دعا الناطق باسمها مسئولي المحاكم العودة إلى البلاد والمشاركة في العملية السياسية. هذا موقف إيجابي عاقل يعزز مصداقية الدول الإفريقية التي تتهمها المعارضة السياسية بالإنحياز للحكومة وفي الوقت نفسه يعتبر رسالة قوية موجهة إلى الحكومة لتغيير مواقفها المتصلبة تجاه إفساح المجال للفرقاء السياسيين. وفي هذا الصدد أيضا يعتبر البيان الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في الرابع عشر من شهر مارس آذار الحالي وأبدى قلقا عميقا تجاه تردي الأوضاع في الصومال ودعا فيه جميع الأطراف بالبدء “بأوسع عملية سياسية ممكنة” ،يعتبر ـ وإن جاء متأخراـ تطورا مهما ملحوظا وخطوة أولى في الإتجاه الصحيح.
وباتخاذ هاتين الخطوتين يكون المجتمع الدولي قد خلق فرصة حقيقية للسلام بدل الفرصة الوهمية التي يتحدث عنها الآن للتنصل من مسئولياته الأخلاقية والقانونية.
bukuraale@hotmail.com
*كاتب صومالي