يصادف العام الجاري الذكري الأربعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة ما بين أنقرة وبكين والتي بدأت بإعتراف الأولى بالثانية في عام 1971. وبهذه المناسبة أعلن الأتراك أن 2011 هو “عام الصين”، الأمر الذي رد عليه الصينيون بتسمية 2012 عاما لتركيا. وجاءت هذه التطورات بعيد الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الصينية “وين جياوباو” لتركيا في أكتوبر المنصرم (الأولى لمسئول صيني رفيع إلى تركيا خلال 8 أعوام)، و من قبلها زيارة الرئيس التركي “عبدالله غول” إلى الصين في 2009 (الأولى لزعيم تركي إلى الصين خلال 14 عاما)، ناهيك عن زيارة مهندس الدبلوماسية التركية “داوود أغلو” للصين ما بين 28 أكتوبر و4 نوفمبر 2010 ، والتي تخللتها مواقف وتصريحات سياسية تركية صارخة ، سنأتي على ذكرها لاحقا.
غير أن الذي توقف عنده المراقبون بدهشة، ودفعهم إلى طرح تساؤلات لا نهاية لها حول طبيعة ما يطبخ بين أنقرة وبكين هو حلول الصين مؤخرا كضيفة شرف في مناسبة عسكرية مهمة. ونعني بهذه المناسبة المناورات الجوية والبرية التي درجت تركيا على إستضافتها سنويا تحت إسم “صقر الأناضول” في قاعدتها العسكرية المركزية بمنطقة “قونيا” بمشاركة قوات من الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن وباكستان ودول منظمة “الناتو”.
في المناورات التي جرت في نهاية العام المنصرم، كان اللافت للنظر ثلاثة أمور محددة هي: الأول، مشاركة القوات الجوية والبرية التابعة للجيش الاحمر الصيني لأول مرة جنبا إلى جنب في مناورات مع قوات تابعة لدول أعضاء في تحاف عسكري غربي (الناتو)، بل على أرض تابعة لدولة عضو (تركيا). والثاني، القدرات القتالية المذهلة للقوات الصينية في تعقّب وضرب وإدارة المعارك مع قوى الشر الثلاث وهي المتطرفين والإرهابيين والإنفصاليين (بحسب التصنيف الصيني)، وذلك خارج حدود الصين الجغرافية المباشرة. والثالث، غياب مشاركة القوات الإمريكية والإسرائلية لأول مرة منذ إنطلاق مثل هذه المناورات في عام 2001 (غياب الأولى بسبب عدم دعوتها من قبل الأتراك الذين تعتري علاقاتهم بتل أبيب بعض المصاعب منذ هجوم القوات الإسرائلية على سفينة “مرمرة” التركية قبالة سواحل غزة في مايو 2010 ، وغياب الثانية إحتجاجا على عدم دعوة الأتراك للإسرائيليين).
ويمكن القول أنه لئن كانت هذه أول سابقة لتعاون عسكري ومناورات جوية بين الأتراك والصينيين فوق قمم الجبال التركية الوعرة، فإنها أول مناسبة على الإطلاق تحلق وتتعاون فيها مقاتلات حربية غربية الصنع من نوع فانتوم (تابعة لتركيا) مع مقاتلات حربية روسية الصنع من نوع سوخوي(تابعة للصين)، وهو ما دفع البعض إلى الزعم بإمكانية إنتقال التكنولوجيا الحربية الإمريكية والأوروبية إلى الصينيين من خلال الأتراك، الساعين اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الإبتعاد عن الغرب والتوجه شرقا، مع لعب دور محوري في قضايا الشرق الأوسط. وقد سارعت الدبلوماسية التركية إلى تفنيد مثل هذه المزاعم ووصفها بـ”السخيفة”.
وعلى هامش هذه التطورات في العلاقات الثنائية التركية – الصينية، هناك مظاهر عديدة لشراكة إقتصادية إستراتيجية، نجد تجلياتها في ما أعلن عنه من إتفاقيات في نهاية العام المنصرم بهدف زيادة التبادل التجاري بحلول عام 2015 إلى 50 بليون دولار، وبحلول عام 2020 إلى 100 بليون دولار، وذلك إرتفاعا من حجمه الحالي البالغ نحو 17 بليون دولار، ناهيك عن إتفاقيات خاصة بالإستثمارات المشتركة في قطاعات النقل والإتصالات والطاقة والسياحة، من أجل تصحيح الميزان التجاري المائل لصالح الصين حاليا (في عام 2009 بلغت قيمة الواردات التركية من الصين 12.7 بليون دولار، فيما بلغت قيمة الصادرات التركية إلى الصين 1.6 بليون دولار فقط) وإتفاقيات أخرى لفتح المجال أمام الشركات الصينية لإستخدام تركيا كمعبر إلى أوروبا والشرق الأوسط من أجل تسويق بضائعها (مثلا جرى التوقيع على إتفاقية تقوم بموجبها مؤسسة إنشاءات سكك الحديد الصينية ببناء خط حديدي سريع لربط أنقرة بإسطنبول، وذلك كجزء من مشروع لاحق لربط بكين بأنقرة).
إن من يراقب هذه التطورات الإيجابية المتسارعة في روابط البلدين البينية، لا يصدق أنها كانا قبل وقت ليس بالطويل مشوشة، ومعرضة للتدهور الخطير على خلفية إستنكار الحكومة التركية لسياسات بكين العنيفة إزاء مطالب وحقوق الأقلية الإيغورية المسلمة في إقليم “تركستان الشرقية” الصيني، وقيام أنقرة بتبني مطالب هؤلاء والدفاع عن قضيتهم بسبب الروابط العرقية والدينية واللغوية المشتركة بينهم وبين الشعب التركي، ولا سيما أثناء إندلاع موجة العنف الدموي في الإقليم ما بين عرقي “الإيغور” و”الهان” في يوليو 2009 ، فهل باعت أنقرة مثلا قضية “تركستان الشرقية” من أجل المصالح الإقتصادية والسماح لها بممارسة دور ونفوذ سياسي أقوى في منطقة “آسيا الوسطى” التي بات للصينيين فيها نفوذ معتبر منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي؟
بعض المراقبين يجيب بنعم، مستشهدا بكلمات نائب الرئيس الصيني “زي جينبينغ” لضيفه وزير الخارجية التركي “داوود أوغلو” أثناء زيارة الأخير لبكين في نوفمبر الماضي، حينما أعرب عن إرتياح بلاده لمواقف أنقرة الجديدة حيال السياسة الصينية الخاصة بتركستان الشرقية، ولا سيما لجهة تأديب العناصر الإنفصالية. وقد رد “أوغلو” حينها على مضيفه بإعادة تأكيد أنقرة على وجود “صين واحدة” تضم تحت سيادتها تايوان، فضلا عن تأكيده على إلتزام أنقرة بمطاردة كل من يمارس نشاطا يهدد به سيادة الصين ووحدتها من فوق الأراضي التركية، وذلك في إشارة إلى مجموعات إيغورية تتخذ من تركيا موطنا مؤقتا بديلا، وتمارس من فوق أراضيها بعض الأنشطة الإعلامية ضد سياسات بكين.
البعض الآخر من المراقبين لهم رأي آخر يستند إلى مبدأ “في السياسة، لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمون”، وذلك بمعنى أن الصين التي نظر الأتراك إليها يوما بتوجس وحساسية، صارت مع تبدل الظروف والمصالح حليفة، بل شريكة إستراتيجية.
وبطبيعة الحال، هناك فريق ثالث يعزي تبدل الموقف التركي من بكين، وتحديدا لجهة سياسة الأخيرة في تركستان الشرقية، إلى مخاوف أنقرة من أن تلجأ بكين إلى ممارسة ضغوط عليها عبر دعم الإنفصاليين من ميليشيات جيش العمال الكردستاني، إن هي (أي أنقرة) لم تكف عن لعب دور الداعم للمتمردين والإنفصاليين الإيغور.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh