من قال إننا تخلّفنا عن تصدير النماذج السياسية المبتكرة؟ فبدل أن يسترشد الرئيس مرسي ممثل تنظيم الاخوان المسلمين بالنموذج الديموقراطي التركي الأقرب اليه إيديولوجياً، نجده يلجأ الى نموذج السياسات اللبنانية التي برهنت عن نجاح غير مسبوق في تقسيم المجتمع اللبناني قسمين غير قابلين للالتقاء في المدى المنظور. تقسيمٌ نحو ازدياد مع احتراب الطائفتين “فيا” via سوريا.
صار يحق لنا أن نفخر بتصدير الصناعة الوطنية المكفولة لاستحداث الانقسام الوطني الذي تمأسس عبر طاولة الحوار كـ”حل سياسي” ناجع يبقي الوضع على ما هو بذريعة الحوار، فتحول الاخير الى ساتر أصغر من ورقة توت للاحتقان والانقسام العمودي الحاصل بين المذاهب والطوائف بشكل غير مسبوق.
وكما نعلم ان اول طاولة حوار في التاريخ تعود الى زمن الملك آرثر في المملكة المتحدة، وكان يجتمع حولها الفرسان المستحقون فقط، وهم لهذا كانوا متساوين ولهذا جعلتها الأسطورة مستديرة. وجاءت هذه الاسطورة للتعبير عن الحقبة التي كان فيها المجتمع البريطاني منقسما على نفسه ومتناحراً. شكلت طاولة الفرسان المتحاورين في حينها تطوراً هائلاً في ضبط العنف المتفلت عبر إيجاد إطار مؤسسي لاحتوائه. ما يفترض انعدام ضرورتها في حال وجود مؤسسات منتخبة ديموقراطياً. وكان السوسيولوجي المعروف مارسيل موس قد اشترط أنه في بدء أي حوار، يجب التخلي عن السلاح. وبهذا فقط استطاعت الشعوب والقبائل والعشائر أن تتعارض من دون أن تتذابح. وبهذا فقط يمكن أن تتوصل الشعوب والأوطان المتحضرة لأن تتعاطى في ما بينها من دون أن تنتحر.
في لبنان تتابعت تجارب الحوار اللبناني منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي شكل قمة مسلسل الاغتيالات وتكثفت بعد أحداث 7 أيار 2008، بحيث بدا لبعض المراقبين حينها أن المعنيين بطاولة الحوار يستخدمون هذه الآلية من أجل تمرير الوقت فقط، إذ إنهم كانوا على ثقة من وجود صلة بين الحوار والوضعين العربي والإقليمي. كما ان البعض الآخر كان يرى أن طاولة الحوار كانت تهدف أساساً إلى شل مجلس النواب وإنهاء دوره. وأنها الآلية المناسبة لذلك في انتظار الاستحقاقات الآتية على لبنان، ومنها الانتخابات النيابية. والزمن في لبنان دائري لا يلبث ان يعيد نفسه.
وبالفعل إذا كانت طاولة الفرسان المستديرة قد شكلت قفزة نوعية لإيقاف دورة العنف وإيجاد الإطار الملائم للتحاور لعدم وجود مؤسسات أصلاً، تعد طاولة الحوار اللبنانية نوعا من العودة إلى زمن شيوخ القبائل في ظل وجود برلمان فيه ممثلون منتخبون من المفترض أنهم يمثلون الشعب، ولديهم جميع الوسائل الديموقراطية المتاحة من أجل التوصل إلى حلول وطنية تحافظ على مصالح الدولة والشعب. لقد فرضت طاولة الحوار على نواب الشعب أن يصبحوا متفرجين ومتتبعين للأخبار كباقي الناس، وكأن دورهم التشريعي والدستوري انتهى. هذا عدا عن المهدّدين بينهم بالاغتيال.
لا شك أن اتباع سبيل الحوار وقواعده يعد الوسيلة الفضلى من اجل التوصل الى تفاهمات والى حلول تسمح باستبعاد العنف. لكن في زمن التشرذم والنكوص الى الانعكاسات الغريزية هل الحوار بين الطوائف هو المطلوب حقاً؟
فإلى حين تشكل تيار وطني حقيقي وفاعل عابر للطوائف ورافض للاصطفاف الطوائفي ولسياسات ممثلي الطائفة الحصريين بسبب طبيعة النظام اللبناني يبدو أن الحوار المطلوب ليس بين الطوائف وممثليها بعدما وصل الانقسام والتشرذم والاحتقان حداً يجعل من البروباغندا والأكاذيب هي”الحقيقة” لأن من يطلقها “منّا وفينا”. يكفي أن ينطق تلفزيون “جماعتنا” بما يشاء كي يُقبل على أنه حقائق دامغة. في ظل انقسام وسائل الاعلام أيضاً. إنها حال غير مسبوقة في تاريخ الدولة اللبنانية الحديثة.
لذا يبدو من المنطقي، وفي ظل تحولنا قبائل منغلقة على ذاتها، أن يكون الحوار المطلوب أولاً داخل كل طائفة وبين مكوناتها المتنوعة بالدرجة الاولى؛ هذا لأننا نفترض وجود بقايا حكمة ومنطق وعقل في داخلها؛ عندما تتوصل كل طائفة الى معرفة ماذا تريد لنفسها وللوطن وهل تريد هذا الوطن ؟ وماذا تريد من الطوائف الأخرى؟ وهل هناك توافق على التسلح وعلى التدخل في سوريا؟
أي عندما تعرف كل طائفة، بجميع مكوناتها عبر نقاشها الداخلي، ما الذي تريده وأي سياسة عليها اعتمادها تجاه الآخر المختلف، وهل تريد التعايش حقاً أم انها تفضل الارتهان والتبعية للخارج الاقليمي والدولي عليه؟ وهذا يفترض أن تجرؤ كل طائفة على الاستماع الى الرأي الآخر داخلها أولاً.
ان هذه الخطوة ضرورية وهي ستكون تمريناً مفيداً بعد أن بلغ بها الانقسام حد اعتبار ابناء الطوائف الاخرى كنوع او جنس آخر يصعب العيش معه وتستحيل الثقة به وبغاياته. ليس هذا فقط بل بلغ التناحر حد اعتبار أي اختلاف بالرأي خيانة تستحق القتل. وليس أدل على ذلك من حملة التخوين والترهيب التي قامت بها صحيفة “الأخبار” بحق الشيعة المستقلين وبعدما تحولت تهمة العمالة عملة رائجة والتهديد بالقتل وممارسته أمرين مقبولين.
سمعنا على أثر الحملة تلك من الوزير عن “حزب الله” محمد فنيش تقبله للرأي الآخر في الطائفة ما عنى، ضمناً، “النأي بالنفس” عن التهديد والتخوين الممارسين!! وإذا كان الأمر كذلك، علينا أن نسأل كيف يترجم ذلك؟ وما معنى تقبل الآخر؟ هل يعني مجرد احتمال وجوده في الجوار، أي عدم تصفيته الجسدية فقط؟ أم يعني قبوله والتحاور معه والسماح له بإسماع رأيه، خصوصاً، للجماهير التابعة لهذا الحزب؛ الجماهير التي جرى تطويعها وغسل أدمغتها بحيث لم تعد تستمع لصوت العقل او الاعتدال ولم تعد تجد معنى في القيم التي تزعم الانتماء إليها وتقيم الطقوس سنوياً لإحياء ذكرى ممثلها. هل تريد الطائفة الشيعية الإبقاء على سلاحها الايراني ولو أدّى هذا الى القضاء على لبنان الوطن الواحد؟ القضاء على لبنان وحرياته التي سمحت بوجوده أصلاً.
لكن الامر لا يقتصر على الشيعة، بل ينطبق ايضاً على المسيحيين. ففي حين تشكل ممارسات وخطابات القيادات المسيحية المعارضة، بشكل عام، قفزة نوعية لجهة الانفتاح على القضايا التي كانت تسمى “وطنية” أيام الحرب الأهلية اللبنانية، أي القبول بالانتماء العربي وبالانفتاح على القضايا العربية والفلسطينية بشكل خاص والتي توجت بزيارة وفد أمانة 14 آذار الى غزة، ومن دون الدخول في حيثيات هذه الزيارة أو ظروفها، لا شك في أنها مثلت خطوة نوعية لجهة انفتاح طرف مسيحي طالما عرف عنه تحفظه في الحد الأدنى تجاه هذه القضايا، إلا انه سرعان ما تناهى الى سمعنا ظهور بعض الردود الرافضة لهذه الزيارة على الفايسبوك. ما يعني أن “بعض جمهور” او قواعد المعارضة المسيحية لا يزال على موقفه الرافض لهذا الانخراط وانه لم يفهم مغزى هذه الزيارة الرمزية. ومهما كانت الذرائع لرفض الزيارة، فإن النأي بالنفس لا يعني عدم تأييد القضايا المحقة والعادلة. وردود الفعل هذه تدل على وجود رواسب متخلفة من الحقبة السابقة ووجود تفاوتات كبيرة على مستوى الوعي السياسي ومستوى قبول الآخر، وهذا ايضاً يتطلب الحوار داخل مكونات الطائفة المسيحية والانفتاح على مختلف مكوناتها من اجل سماع الآخر وتقبله فعلاً لا قولاً.
الأمر نفسه ينطبق على الطائفة السنية الذاهبة نحو مزيد من الانقسام ورفض الآخر والتعصب السلفي والتسلح. هنا أيضاً يجدر النقاش بصراحة، أي لبنان يريدون وأي مستقبل لمكوناته؟ هل يريدون البقاء على الاعتدال ام انهم يجدّون السير نحو التطرف؟
وطالما تحولنا مجرد قطعان في طوائف فمن الأفضل أن تتفق كل طائفة على برنامجها وسياستها وعندها فليتحاوروا معاً طالما ان مجلس النواب فقد وظيفته منذ أن أغلق في المرة الاولى، ومنذ لم يعد للانتخابات من معنى.
monafayad@hotmail.com
استاذة جامعية لبنانية
النهار