تشير حوادث 1958، (قبل مجيء الامام الصدر إلى لبنان)، إلى التنوع و التعدد في الحراك الشيعي الذي كانت تحكمه العائلات الكبرى، (الأسعد والخليل وعسيران والزين في الجنوب وحمادة وحيدر في البقاع الشمالي)، التي شكلت رأس هرم السلطة والزعامة الشيعية، يليها رؤساء العائلات الأدنى جاهاً ونفوذاً، (الفضل والعبد الله وبزي وبيضون في الجنوب، وياغي وزعيتر وشمص وجعفر في البقاع)، يليهم رجال الدين الكبار الذين تحالفوا مع هذا الزعيم أو ذاك، (مثال عبد الحسين شرف الدين مفتي صور ومحمد الصادق مفتي النبطية).
أما «المثقفون الشيعة» فلم يكن لهم أدنى نفوذ أو هيبة أو دور في تلك الأيام. وهم كانوا على كل حال أقلية من الصحافيين والكتاب لا قوة سياسية لهم، (مثال كامل مروة وجريدة “الحياة”، أو نزار الزين ومجلة “العرفان”)، الأمر الذي يفسر اندفاع الكثيرين منهم إلى الدخول في الأحزاب القومية واليسارية، الحزب الشيوعي خصوصاً، ثم حزب البعث وحركة القوميين العرب، في حين دخلت عائلات كانت ترى نفسها جديرة بالزعامة، في الحزب السوري القومي، مثل “الدنادشة” وحلفائهم في بلاد بعلبك، وآل حلاوي في صور.
أما الأطراف الشيعية في ضاحية بيروت الجنوبية وبلاد جبيل والبترون وبعض قرى جبل لبنان ، فقد شكّلت خزاناً للواردين إلى وظائف الدولة اللبنانية يعتمدون على الزبائنية الخاصة بالزعماء السياسيين لتلك المناطق. وهم كانوا في الغالبية ينقسمون ما بين التيارين الشمعوني والجنبلاطي في الجبل (عائلات الجية والوردانية وجون والقماطية وكيفون والضاحية الجنوبية) أو بين الكتلوي والدستوري في جبيل.
عشية ثورة 1958 كان الانقسام السياسي في البلاد قد بلغ مداه ما بين تيار مؤيد للجمهورية العربية المتحدة، (وحدة مصر وسوريا بقيادة عبد الناصر)، وتيار مؤيد لحياد لبنان بدعم غربي أولاً، وبتحالف مع العرب المعتدلين ثانياً، (حلف بغداد والعلاقة مع العراق والأردن).
في مطلع عام 1957، أيدت حكومة الرئيس سامي الصلح مبدأ إيزنهاور، (وفيه التزامات تجاه الغرب وضد الاتحاد السوفياتي)، بعد أن كان الرئيس شمعون قد سار بالبلاد في اتجاه الأحلاف الغربية منذ مطلع 1954. وفي نيسان 1957، استقال الزعيم أحمد الأسعد من حكومة الصلح ليعزز الانقسام الشيعي بين موالاة ومعارضة، قبيل الانتخابات التي دعا إليها شمعون في حزيران من نفس العام. وانضم إلى لوائح المعارضة كامل الأسعد وصبري حمادة وعلي بزي ومحمد صفي الدين ورفيق شاهين وسليمان الزين ورياض طه والدكتور محمد خليفة، في حين تشكلت لوائح الموالاة من عادل عسيران وكاظم الخليل ويوسف الزين وإبراهيم حيدر وصالح الخليل. وقد خسر أحمد الأسعد إذ ترشح في صور معقل آل الخليل، (نال 6850 صوتاً مقابل 8130 لكاظم الخليل، ونال محمد صفي الدين حليف الأسعد 5845 صوتاً مقابل 7512 لرضا وحيد). ولا تعنينا هنا النتائج التفصيلية لتلك الانتخابات، (التي فازت فيها الموالاة طبعاً مما يشير إلى ميل الناخبين مع طواحين السلطة مهما كانت، ناهيك عن انتقال الكثيرين لاحقاً الى مواقع أخرى)، بقدر ما تعنينا التطورات التي تلتها والتي كان محورها الأستاذ عادل عسيران الذي انتخب رئيساً للمجلس النيابي. فذلك القومي العربي الاستقلالي، رفيق رياض الصلح وشكري القوتلي، والذي أيّد عبد الناصر في وجه العدوان الثلاثي، (تشرين الثاني ـ نوفمبر 1956) وأيّد وحدة مصر وسوريا، (شباط ـ فبراير 1958)، كان في قيادة الموالاة للرئيس شمعون وتعاون كرئيس للمجلس مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، (انتخب عادل بك رئيساً للمجلس في 13 آب 1957).
وخلال أحداث 1958، احترم الدستور اللبناني ورفض المس به أو العمل ضد ثوابت الكيان وضد المؤسسات والممارسة الديمقراطية. وهو التقى عبد الناصر في دمشق في آذار 1958، ونقل عنه قوله إنه يحب لبنان ولا يريد زواله أو تهديد استقراره. وفي نيسان 1958، أمضى الرئيس عسيران عطلة الأعياد في القاهرة، وألقى فيها تصريحات عن لبنان والوحدة العربية والعلاقات المميزة مع مصر.
وحين اندلعت الحوادث المشؤومة، رفض عادل بك ضغوط الزعماء الشيعة للاستقالة، قائلاً إنه لا يريد المساهمة في إحداث فراغ سياسي ودستوري وإن موقعه ودوره مهمان للخروج من الأزمة بتسوية ولقيام انتخابات رئاسية جديدة.
وقد استقال رشيد بيضون في أواخر أيار 1958 من حكومة الصلح، وذلك تحت ضغط الشارع، علماً أنه كان رفض المشاركة في الثورة ودعا إلى وقف العنف والقتال لأن ما يحصل يهدد وجود لبنان. ووقف إبراهيم حيدر موقفاً مماثلاً وذهب إلى حد تأييد شكوى لبنان ضد الجمهورية العربية المتحدة أمام مجلس الأمن. وحين حصل الإنزال الأميركي على شواطئ بيروت في 15 تموز 1958، أبرق عادل عسيران إلى الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد معتبراً العمل الأميركي عدواناً ضد سيادة لبنان واستقلاله.
وكان الشيخ محمد جواد مغنية، (العروبي الناصري)، هاجم عادل عسيران واتهمه بالسكوت والصمت أو بعدم الوضوح (التلغراف 26/5/1958). في حين وقف معظم العلماء الشيعة مترددين: فهم من ناحية ضد سفك الدماء، ومع الاستقرار ووحدة لبنان ومع العروبة والممانعة، وهم من ناحية ثانية على علاقة بالنجف و”قم” وبالنظامين العراقي والإيراني؛ والنزاع، حقيقةً، كان بين مصر الناصرية والعراق الهاشمي. وفي 3 حزيران 1958، صدر بيان علمائي يدعو إلى وقف القتال والعودة إلى الحال الطبيعية وصيغة التفاهم والميثاق الوطني، وقّعه: مهدي إبراهيم ، محمد تقي صادق، حسن معتوق، محمد علي المقداد، عباس أبو الحسن، رضا فرحات، علي مهدي ابراهيم (جريدة التيار 3/5/1958). وفي آخر حزيران وجّه علماء شيعة رسالة إلى داغ همرشولد رحبوا فيها بتدخل الأمم المتحدة في الأزمة، مع تأكيدهم على أنهم كانوا مع وجود لبنان بقوة (التيار 30/6/1958).
خلاصة هذا الاستعراض أن الوعي الشيعي لحظة وصول السيد موسى الصدر إلى لبنان كان يتشكّل من 3 عوامل متداخلة: الإسلام، العروبة، ولبنان، وأن عادل عسيران هو من جسّد هذه العوامل في الشخصية الحقيقية للشيعة في تلك المرحلة. ومن هنا نفهم كيف أن الرئيس بري وحركة “أمل” ورثا القاعدة العسيرانية في منطقة الزهراني، وبنيا على التحالف مع العائلات الكبرى في النبطية وصور، وورثا أيضاً الشيعية الشمعونية (أو اليمينية بحسب عبارات ذلك الزمن) في الضاحية والجبل، في حين ورث حزب الله قاعدة آل الأسعد وأحزاب اليسار والفلسطينيين في الجنوب…
وتشير حوادث 1958، اضافة إلى الانقسام السياسي الوطني والعربي بين الشيعة، (موالاة ومعارضة، ناصرية وهاشمية)، إلى بروز وعي جديد وفئة جديدة من المثقفين حملتها التجربة الشهابية. وهنا بالضبط كان مشروع الإمام الصدر على موعد مع الحالة التي أفرزتها ثورة 1958. فقد خسر عادل عسيران انتخابات رئاسة المجلس أمام كامل الأسعد (15 آب ـ أكتوبر 1959) الأمر الذي ساهم في التعجيل بعودة الإمام الصدر وبدء تحركه في صور.
يتبع
mawsaoud@hotmail.com
* أستاذ علم الاجتماع السياسي والإسلاميات – بيروت- لبنان
[هل الحزب والمقاومة بديل الوطن والأمة والدين؟ (1)-
>http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=6216&lang=ar]
هل الحزب والمقاومة بديل الوطن والأمة والدين؟ قراءة سوسيو- تاريخية في مسار “حزب الله” ومصيره (2)