مَن اعتقد أنّ الثورة في سوريا تأخّرت في الاندلاع يكون مخطئاً خصوصاً حين يعلم أنّ الانقلاب العسكري السوري الذي كان يُحضّر له كاد أن يسبق الثورات العربية كلها، لو لم يُنحَر المخطّطُ الأوّلُ لهذه الثورة “المفترضة”، اللواء غازي كنعان.
فمَن لم يسمع في لبنان عن صولات “أبو يعرب” وجولاته الاستخباراتية الفعالة؟ وهو الذي حكم لبنان بقبضة حديدية لمدّة 20 عاماً بعدما أحكم الطوق عليه أمنيّاً على امتداد الـ10452 كلم2، ليطلق عليه السياسيون والمواطنون على حدّ سواء لقب “رئيس جمهورية لبنان الفعلي” أو حاكم لبنان الفعلي.
أمّا سير العملية الانقلابية فقد يكون مجهولاً حتى الآن لكنّ الذي أصبح معلوماً، حسب مقربين من عائلته، أنّ تسريب المعلومات عن الخطّة الانقلابية التي كان ينوي كنعان القيام بها ضدّ الرئيس بشار الأسد أدّت بشكل فوري وحازم إلى القضاء عليه أو “نحره” على وجه السرعة.
لماذا نُحِر غازي كنعان؟
يروي المقرّبون من عائلة كنعان أنّه بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 شهدت مصر تحرّكاً استخباراتياً واسعاً، رُصد منه اجتماع سرّي مثير بين اللواء غازي كنعان ومسؤول أميركي رفيع المستوى في مصر آنذاك تحضيراً لانقلاب في سوريا بالاتّفاق مع العماد حكمت الشهابي قائد الجيش السابق، وعبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية السورية المقيمين حاليّاً في فرنسا.
لكنّ رجل الاستخبارات الأوّل في مصر اللواء عمر سليمان، وهو رئيس المخابرات المصرية سرّب الخبر عبر وثيقة خطّية سرّية سلّمت إلى المخابرات السورية آنذاك وإلى يد اللواء آصف شوكت تحديداً كاشفاً زمان اللقاء ومكانه الذي تمّ في مصر بين كنعان والمسؤول الأميركي، لكنّ عمر سليمان لم يتمكّن من كشف محضر الاجتماع، إنّما ألمح في وثيقته المسرّبة إلى أنّ الهدف من الاجتماع على حدّ ما توصّلت إليه أجهزة استخباراته المتواطئة هو حساس وخطير.
وأضاف المقرّبون: إثر ذلك أبلغ اللواء آصف شوكت إلى الرئيس السوري بشار الأسد الأمر، أمّا مهمّة إبلاغ كنعان وتصفيته فقد أوكلت إلى آصف شوكت الذي توجّه إلى مكتب كنعان برفقة مسؤول كبير. وبعد “الحديث القصير” الذي لم يُعرف فحواه حتى الساعة طُلب منه الاتّصال بإذاعة لبنانية مشهورة ومعروفة للإعلان على الملء وعبر الأثير عن قراره الشخصي، وقد سمعه العالم العربي بأجمعه.
أمّا المدققون فيلحظون من خلال حديث كنعان مع الإعلامية وردة زامل أنّه كان مختلفاً ويمكن للمستمع الاستشفاف ضمناً أنّه يُطلب منه ذلك أو يُملى عليه الانتحار، وكأنّ خياره ليس شخصياً.
وبما أنّ اللواء غازي كنعان اعتُبر حاكم لبنان الأول فقد كان من الطبيعي أن تُثار الشكوك حول ارتباطه باغتيال الحريري، لكن هناك أشياء كثيرة يجهلها الآخرون وتفوق اغتيال الرئيس الحريري أهمية من الممكن أن تكون السبب في وضع حدّ لامتداد كنعان السياسي سوريّاً بعدما نجح ولمع نجمه عندما نفّذ مهمّة مماثلة لبنانيّاً.
عمليّة الانتحار التي نفّذها كنعان تمّت بعد ساعتين فقط من المقابلة الإذاعية التي أجراها في عملية بدت وكأنّها تصفية سياسية بحتة.
وقد توالت أحداث عدّة بعد هذه التصفية، وفق المقربين أنفسهم، تؤكّد صحتها وتثير الشكوك، ومنها:
* حادثة وفاة شقيق اللواء كنعان التي قيل إنّ قطاراً دهسه! لكنّ الحقيقة أنه نُحر أيضاً بعدما طُلب منه إحضار ملفات سرية عُرف أنّ كنعان احتفظ بها عنده غير أنّ الأخير نفى الأمر، فاستدعي إلى التحقيق في الوقت نفسه الذي داهمت فيه المخابرات السورية منزله واستولت على الملفّات التي قيل عنها إنّها “Top Secret” وإنّ كنعان استودعها مع شقيقه “أمانة تاريخيّة”. لكنّ شقيق اللواء غازي كنعان، دخل غرفة التحقيق ولم يرجع. أمّا سبب الوفاة فقد أعلن كالآتي: “قطار دهسه”.
* ردّة فعل ابن كنعان البكر حين توجّه إلى مستشفى دمشق، فلدى رؤيته جثة والده ومن شدة انفعاله ضرب الحائط بقبضة يده فكسر إبهامه قائلاً: “قتلوه”.
* طُلب من العائلة ومن زوجة كنعان تحديداً عدم الإدلاء بأيّ أحاديث صحافية تحت طائلة المسؤولية، خصوصاً من أحد أبنائه الذي كان يدرس ويقيم في الولايات المتحدة الأميركية.
وفي المقابل، تعهّدت عائلة الأسد بعدم التعرّض لآل كنعان وأملاك العائلة وأموالها. فكانت المعادلة التزام الصمت مقابل عدم التعرّض للأموال. علماً بأنّ ابن اللواء كنعان البكر متأهّل من ابنة شقيق الرئيس الراحل حافظ جميل الأسد.
* قاد اللواء رفعت الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع المنحلة المنفي إلى خارج البلاد تحرّكاً تصعيدياً في الشهرين الأخيرين من عام 2005 بعد تلقيه إشارات من الإدارة الأميركية توحي بتغيير وشيك للنظام في سوريا قرأ فيها رغبة أميركية في أن يكون التغيير من داخل المؤسسة لا من خارجها.
كما تجدر الإشارة إلى أنّه قد تمّ عقد قران نضال كنعان وهو أحد أبناء اللواء غازي كنعان منذ قرابة الثلاثة أشهر على ابنة جهاد خدام، ابن نائب رئيس الجمهورية السابق المنشق عبد الحليم خدام في دبي.
ويبقى السؤال: كيف نُحر غازي كنعان؟ وهل قرأ نعوته من ورقة مكتوبة؟ ولماذا لم ينتحر في بيته عندما توجّه إليه لفترة وجيزة قبل العودة إلى مكتبه والانتحار هناك؟
إذا كانت هناك أسرار أخرى عرفها البعض وغابت عن آخرين فإنّها حتماً ستتكشّف بعد سقوط النظام. لأنّه وعلى رغم أنّ قادة متواطئين في عملية التصفية قد لقوا حتفهم أخيراً، إلّا أنه ما زال هناك أناس رأوا وسمعوا ولم يتكلّموا…وللبحث صلة…