مع الذكرى الخمسين لـ 5 حزيران (يونيو) 1967، أعاد ستّة مثقّفين مصريّين هندسة الحدث الكبير، مستفيدين من المعرفة التي تراكمت مذّاك حول هزيمة وصفها البعض بـ «العسكريّة» والبعض بـ «الحضاريّة».
هكذا ضمّ الكتاب الذي حرّره خالد منصور، والمعنوَن «في تشريح الهزيمة – حرب يونيو 1967 بعد خمسين عاماً» (دار المرايا للإنتاج الثقافيّ، القاهرة) مساهمات لبلال علاء وخالد فهمي وسامح نجيب ومحمّد العجّاني ومصطفى عبد الظاهر، فضلاً عن محرّره منصور الذي اعتبر أنّ «فكرة الكتاب» هي أنّ «هزيمة 67 ليست فقط ماضياً نتعلّم دروسه، ولكنّها حاضر حيّ، بمعنى أنّها حدث تأسيسيّ لحقبة ما زلنا نعيشها حتّى اليوم».
لكنّ أهمّ ما في هذا الكتاب أنّه يتيح لنا، لا سيّما من خلال مساهمتي منصور وفهمي، أن نستعيد الهزيمة الكبرى ضدّاً على أشكال استعاداتها السائدة.
فباستناد الكاتبين إلى الأعمال والمذكّرات والوثائق، المصريّة والأميركيّة والإسرائيليّة، تتكامل رواية تقف في مواجهة الرواية الرسميّة التي ألّفها وأشاعها محمّد حسنين هيكل.
ولئن كان بعض عناصر هذه الرواية معروفاً، فإنّ التذكير بها وإدراجها في سرد أعرض يبقيان مهمّة مطلوبة لتصويب كتابة التاريخ، وأيضاً لمحاصرة الخرافة الناصريّة – الهيكليّة في تقديمها، خصوصاً لدى الأجيال الأصغر سنّاً التي لم تعش تلك التجربة. فهنا، مع استعادة الهزيمة كما حصلت، واستعادة الأسباب التي جعلتها تحصل على هذا النحو المهين، يتحوّل كلّ سطر إلى صفعة على وجوهنا. وحيال تذكّر تلك الوقائع، والتعرّف إلى ما لا يزال مجهولاً منها، يخال كلّ من تابع الكتابات النقديّة والنظريّة «الفخيمة» عنها، أنّ تلك الهزيمة إنّما كانت أوّليّة وبدائيّة أكثر كثيراً ممّا تُسبغه عليها الكتابات تلك. فهي لم تكن حرباً خُطّط لها أن تهزم الناصريّة لأنّ الناصريّة كانت مهزومة، ولم تكن ضربة لحضاريّةٍ وتقدّميّةٍ مزعومتين أنتجتهما هذه الناصريّة، لأنّ المذكورة لم تنجب، في ما عدا الخطابة و «البهورة»، شيئاً من ذلك. أمّا أنّ الهزيمة استهدفت رؤوس العرب التي رفعها عبد الناصر، وفقاً لخرافة شائعة، فإنّ أكبر «إنجازات» الزعيم المصريّ تنكيسه رؤوس العرب، قبل الهزيمة، وخصوصاً بعدها.
… عدوان؟
قد يكون صحيحاً أنّ إسرائيل عدوانيّة وتوسّعيّة. لكنْ، وهذه هي الكذبة الأولى والأكبر، ليس هناك من برهان صلب واحد على أنّها كانت تمتلك خطّة عدوانيّة وتوسّعيّة في 1967. أمّا من ينظر إلى تلك الحقبة ببرودة من الخارج، بعيداً من الأكاذيب المؤدلجة والمضخّمة، فلا يفوته أنّ مصر الناصريّة هي التي كانت تلعب لعبة الحرب وفقاً لتصوّرين أخرقين: واحد حمله جمال عبد الناصر، مستقى من تجربة 1956، مفاده تحقيق انتصار سياسيّ عبر الدفع إلى حافّة الهاوية، وهو ما يستدعي عدم توجيه الضربة العسكريّة الأولى بل امتصاص ضربة كهذه توجّهها إسرائيل، على أن نرى لاحقاً ما يحصل، وآخر حمله قائد جيشه وصديقه الحميم، ثمّ منافسه على السلطة، المشير عبد الحكيم عامر، ومؤدّاه الثقة بأنّ إسرائيل لن تهاجم «خوفاً من الصلابة العربيّة الراهنة». وهذا ما دفعه إلى زيارته التفقّديّة الشهيرة إلى الجبهة يوم 5 حزيران، والتي حال دون إكمالها الهجوم الجوّيّ الإسرائيليّ، «المفاجىء» و «الغادر»، وعودة المشير الذليلة والمهينة إلى القاهرة.
وباستعادة شبه حَرفيّة لما جمعه منصور وفهمي، تبدأ قصّة الحرب مع اجتماع في القاهرة ضمّ السفير السوفياتيّ ديمتري بوغداييف وأحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجيّة المصريّة، بناء على طلب الأوّل. فالسفير نقل رسالة من موسكو عن قوّات إسرائيليّة قال إنّها تحتشد قرب حدود سوريّة التي تجمعها بمصر اتّفاقيّة دفاع مشترك. وبالفعل ففي كلمة لعبد الناصر بعدها بعشرة أيّام، أشار الرئيس إلى «تقارير مؤكّدة ومفصّلة حول وجود 11-13 لواء إسرائيليّاً مقسّمة بين جنوب بحيرة طبريّا وشمالها». والأمر نفسه أكّده لأنور السادات، رئيس مجلس الأمّة، نائب وزير الخارجيّة السوفياتيّ فلاديمير سميونوف.
وقد أثيرت لاحقاً شبهات لم تُبدَّد حول هذه الفعلة السوفياتية: هل أرادت موسكو تخويف مصر بحيث تسحب جيشها من اليمن، أم أرادت إحداث مزيد من التقارب بين حليفيها المصريّ والسوريّ؟ في الحالات كافّة، ففي 14 أيّار (مايو)، وبتكليف من المشير عامر، زار سوريّة رئيس أركان الجيش محمّد فوزي وتفقّد الحدود مع الدولة العبريّة، لكنّه لم ير شيئاً ممّا حذّر منه الروس.
مع هذا ففي اليوم نفسه، وهو ما لم يتراجع عنه بعد تقرير فوزي، قرّر عامر حشد قوّات عسكريّة مصريّة في سيناء، ورفع درجة الاستعداد من «دائم» إلى «كامل»، مؤكّداً لعبد الناصر أنّ الإسرائيليّين بهذا سيفكّرون مرّتين قبل الإقدام على غزو سوريّة. وسارت تلك القوّات في شوارع مدنيّة مأهولة متجنّبةً الدروب العسكريّة التي شُقّت أصلاً لأغراض كهذه، فعرف المصريّون وعرف العالم كلّه أنّ مصر تحشد قوّاتها للحرب. لكنّ الرواية التي رواها مدير المخابرات الحربيّة عبد الفتّاح أبو الفضل بعيدة الدلالة عن تنفيذ قرار التعبئة والحشد الذي أمر عامر بإتمامه خلال 48-72 ساعة: «فوجئت (…) بحالة من الفوضى لقوّات الاحتياط يعجز الإنسان عن وصفها، والمفروض أنّها على وشك الاشتراك في القتال بالجبهة. كان الجميع في ملابس مدنيّة ومعظمهم بجلابيبهم الريفيّة ويحملون بنادقهم، وليس هناك أيّ زيّ عسكريّ. جُمعوا من قراهم على عجل ومن دون أيّ ترتيبات إداريّة (…) وشُحنوا في السكّة الحديد كالدواب، من دون أيّ تجهيز أو ترتيب إداريّ من مأكل أو مشرب أو راحة. كانوا يتدافعون لشراء طعامهم من الباعة الجائلين في المحطّة في فوضى شاملة…».
الوثائق والكتب المنشورة تشير، في المقابل، إلى أنّ إسرائيل لم تكن تملك حينذاك سوى خطط طوارىء بديلة، وهي ما يعدّه كلّ المؤسّسات والجيوش والشركات الحديثة لمواجهة الاحتمالات المختلفة. أمّا الخطط الهجوميّة العمليّة فلا يبدو لها أثر، بل إنّ قطاعاً واسعاً من ساستها، خصوصاً حرسها القديم بقيادة ديفيد بن غوريون، كان يسعى بقوّة إلى تفادي أيّة مواجهة مع مصر.
بالنسبة إلى الولايات المتّحدة، «شريكة إسرائيل في العدوان»، لم يكن هناك بين 1955 و1967 أيّ توافق داخل إدارتها، سواء بين الأجهزة التنفيذيّة أو بينها وبين الكونغرس، حول السياسات والإجراءات التي يتعيّن اعتمادها حيال مصر وعبد الناصر. صحيح أنّه كان هناك انزعاج أميركيّ مؤكّد من بعض سياسات القاهرة وتوجّهاتها، لكنْ لم تكن واشنطن تخطّط لصدام حتميّ معها، محافظةً على شعرة معاوية، ترغيباً وترهيباً. فقد استمرّت في تقديم صفقات قمح بترتيبات تفضيليّة إلى مصر، وصلت إلى 904 ملايين طن بين 1960 و1965 بقيمة إجماليّة هي 731 مليون دولار، دفعتها القاهرة بالجنيه المصريّ من دون حاجة إلى توفير العملة الصعبة. ومع الاعتماد على القمح الأميركيّ الذي كان يبلغ نصف الاستهلاك المحليّ، فهذا لم يحل دون التصعيد اللفظيّ المتواصل ضدّ الولايات المتّحدة. ففي خطابه الشهير في بور سعيد في 22/12/1964 مثلاً، قال عبد الناصر وهو يتحدّث عن واشنطن: «الذي لا يعجبه سلوكنا يشرب من البحر، والذي لا يكفيه البحر الأبيض ياخد البحر الأحمر يشربه كمان». وقد ورد هذا الكلام في السنة التي استهلكت فيها مصر مليوني طن (من أصل ما مجموعه 3.5 مليون طن) من الولايات المتّحدة دُفع ثمنهما بأسعار تفضيليّة.
إلحاح على الحرب
واصل عبد الناصر خطبه وتصريحاته حول الاستعداد للحرب، وأنّها ستكون فاصلة، وهو المعنى الذي حملته ملصقات انتشرت في شوارع القاهرة أواخر أيّار(مايو)، وحملة إعلاميّة تفاخر بقوّة الجيش المصريّ. وبالفعل فالجيش المذكور كان يملك أكثر من 1300 دبّابة (إسرائيل: 1000)، وأكثر من ألف مدرّعة حاملة للجنود (إسرائيل: 1500)، و950 بطاريّة مضادّة للطائرات (إسرائيل: 550)، و431 طائرة مقاتلة (إسرائيل: 286). وهذا بينما واصل عامر دفع قوّاته إلى سيناء من دون أيّ رقابة سياسيّة على ما يفعله. وفي 16/5 وصلت الفرقة الخامسة إلى شبه الجزيرة، ثمّ تلتها فرقتا المشاة الثانية والسابعة، وكانت الفرقة المدرّعة السادسة والفرقة الرابعة في الطريق. هذه القوّات، وقوامها يزيد عن 70 ألفاً، هزّت اسحق رابين، رئيس أركان الجيش الإسرائيليّ وبقية القادة العسكريّين، خصوصاً وقد وصلت قاذفات ومقاتلات مصريّة إلى مطار بيرتماده في سيناء. ولم يقف الأمر هنا، ففي 17/5 قامت طائرتا ميغ 21 من سلاح الجوّ المصريّ بطلعة جويّة فوق مفاعل ديمونة النوويّ في صحراء النقب. وخلال ساعات رفع الإسرائيليّون درجة استعداد الجيش ووضعوا سلاح الطيران على أهبة الاستعداد، وفي 19/5 قدّرت المخابرات العسكريّة الإسرائيليّة أنّ لدى مصر 80 ألف جنديّ في سيناء معهم 550 دبّابة وألف مدفع. وبدورهم، طالب الأميركيّون إسرائيل صراحة بعدم البدء بالهجوم، فتعهّد الإسرائيليّون بهذا شريطة ألاّ تغلق مصر مضائق تيران، شريان اتّصالها غير الجوّيّ بالعالم.
لكنْ في ذاك اليوم نفسه، 19/5، طلبت القاهرة سحب قوّات المراقبة التابعة للأمم المتّحدة المنتشرة على الحدود مع إسرائيل. لقد تداولت القيادة المصريّة في صيغتين للطلب، واحدة لعبد الناصر أكثر اعتدالاً، وأخرى لعامر أكثر تشدّداً. لكنّ صيغة عامر هي التي اعتُمدت من دون أن يأخذ المشير بتعديلات عبد الناصر عليها. والصيغة هذه، أي «سحب القوّات تماماً»، ليس لها سوى معنى واحد هو أنّ مصر قرّرت خوض الحرب.
وبالفعل ففي 22/5 أُغلقت مضائق تيران المؤدّية إلى خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيليّة، وهو ما كانت أميركا وإسرائيل تعتبرانه، وتكرّران ذلك، إعلاناً للحرب. وردّاً على نظريّة عبد الناصر في أن لا توجّه مصر الضربة الأولى بل أن تمتصّ ضربة إسرائيليّة أولى!، تململ الطيّارون المقرّبون من عامر فطمأنهم: «ما تخافوش يا ولاد، والله حنحارب». لكنْ في مساء اليوم نفسه ظهر الرئيس الأميركيّ ليندون جونسون على شاشات التلفزيون حيث ألقى بياناً حادّ اللهجة أعلن فيه أنّ قرار مصر لا يتمتّع بأيّ شرعيّة قانونيّة، وأنّه يتهدّد السلام، داعياً الأمم المتّحدة إلى التدخّل. وبسبب إغلاق خليج العقبة، حظيت مطالب إسرائيل بالحصول على مزيد من السلاح والدعم الاقتصاديّ الأميركيّين بضوء واشنطن الأخضر.
مع هذا تسارعت المحاولات الأميركيّة لتطويق الانهيار، فحضر إلى القاهرة وزير الماليّة السابق روبرت أندرسون والسفير السابق تشارلز وود روفيوست وعادا إلى واشنطن محبطين.
في غضون ذلك أكّد عبد الناصر في مؤتمر صحافيّ في 28/5 ثمّ في خطاب ألقاه بعد يوم واحد، أنّ مصر صارت على أهبة الاستعداد لمواجهة إسرائيل وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 1948.
وتُوّج التصعيد السياسيّ بتصعيد ثقافيّ وفنّيّ: ففي 1/6 وقفت أمّ كلثوم في سينما قصر النيل تشدو بأغنية «الله معك» الجديدة، التي لحّنها رياض السنباطي وكتبها صلاح جاهين:
«راجعين بقوّة السلاحْ
راجعين نحرّر الحمى
راجعين كما رجع الصباحْ
من بعد ليلة مظلمة»
وبعد أن تغنّي «جيش العروبة» («ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك») لا تنسى التعريج على «مأساة فلسطين» التي تدفع الجيش «نحو الحدود»، واعدة شعب فلسطين وأرضها بالتحرير المضمون.
أمّا الإسرائيليّون فلم يتّخذوا قرارهم النهائيّ بالحرب حتّى مساء 3/6 في اجتماع لعدد من كبار سياسيّيهم في منزل رئيس الحكومة ليفي أشكول، وفي صباح اليوم التالي اعتمدت الحكومة قرار الحرب رسميّاً. وقد بدا ملحوظاً أنّ الموقف الإسرائيليّ إنّما يتحوّل في استجابة متصاعدة للسلوك المصريّ التصعيديّ. فقرار عامر بالتعبئة في 15/5 وبدء التدفّق العسكريّ إلى سيناء لم يدفعا أشكول إلى استدعاء الاحتياط. لكنّ الأخير رضخ، بعد يومين، لضغوط رابين، فاستدعى لواءَي احتياط (18 ألف جنديّ) وأرسلهما إلى صحراء النقب. مع هذا، ففي 28/5 اجتمعت الحكومة وقرّرت منح الديبلوماسيّة ثلاثة أسابيع تجاوباً مع طلبات واشنطن، وإذ صوّتت لقرار الحرب فقد أيّد تسعة وزراء شنّها في مواجهة تسعة آخرين فضّلوا مواصلة المساعي الديبلوماسيّة، خصوصاً أنّ وزير الخارجيّة أبا أيبان كان قد زار واشنطن في 24 و25/5 ونصحته الإدارة الأميركيّة بالتريّث كما وعدها بعدم التسرّع، وفي 28/5 أرسل جونسون خطاباً بهذا المعنى إلى أشكول. لكنْ في 1/6، وقبل يومين على اتّخاذ القرار الحاسم، شُكّلت حكومة حرب ووحدة وطنيّة، ضمّت موشي دايان وزيراً للدفاع، كما وزّرت مناحيم بيغن وقادة يمينيّين آخرين. وحتّى 3/6 ظلّت واشنطن تحذّر تلّ أبيب، في رسائل متفرّقة، من شنّ حرب استباقيّة.
حرب بلا استعداد
في 2/6 توقّع عبد الناصر أن تهاجم إسرائيل خلال يومين، وأن تفتتح هجومها بضربة جوّيّة ضخمة، وحدّد يوم 5. لكنّ عامر نفى هذا الاحتمال وأكّد مجدّداً أنّه يقود «أقوى قوّة في الشرق الأوسط»، وتمنّى ألاّ يكون في وضع وزير الدفاع الإسرائيليّ موشي دايان «الذي لا بدّ أنّه حائر الآن في ما يمكن أن يفعله إزاء قوّة الاستعداد المصريّ». بدوره قال شمس بدران، وزير الحربيّة، لرئيس الحكومة السوفياتيّة إلكسي كوسيغين: «حتّى إذا وجّهت إسرائيل جميع قوّاتها إلى جبهتنا وتركت بقية الجبهات خالية، فنحن مستعدّون لإسرائيل ومَن هم وراء إسرائيل، فلا يهمّنا أميركا أو غير أميركا». ذاك أنّ موسكو، لاستشعارها خطورة ما اندفعت إليه الأوضاع، دأبت، خلال الأيام العشرة السابقة على 5 حزيران، على نصح مصر بألاّ تنزلق نحو الحرب. لكنّ بدران الذي زارها آنذاك نقل عنها صورة أخرى، متباهياً أمام مجلس الوزراء بـ «الدعم السوفياتيّ المطلق».
أمّا الرصيد العسكريّ لسيّد بدران، أي عبد الحكيم عامر، فلم يكن يخوّله بتاتاً التصدّي لهذه المهمّة: فهو ارتكب أخطاء فادحة وانهار في حرب 1956، ثمّ ارتكب مثلها في إدارة الوحدة مع سوريّة حيث صُنع «الانقلاب الانفصاليّ» في مكتبه، وأخيراً كان فشله ذريعاً في اليمن. وفي المقابل، تميّز المشير بقدرات فائقة على التآمر وتمتين العلاقات بشبكة واسعة من الضبّاط عبر الامتيازات التي يغدقها عليهم. ومن هذا القبيل انتهز الأوضاع التي صنعها بنفسه ليعيّن، ما بين 15 و23/5، عدداً من محاسيبه في مناصب عليا في الجيش.
لقد اختاره عبد الناصر قائداً للجيش بسبب علاقته الشخصيّة الوثيقة به، واعتبر أنّه الشخص الموثوق للدفاع عن النظام. هكذا أجبر محمّد نجيب على ترقيته مرّة واحدة من «صاغ» إلى «لواء»، ثمّ أقطعه الجيش كلّيّاً في 1954. لكنْ بعد خلافيهما الصغير في 1956 والكبير في 1962، حين فشل في إزاحته، أقرّ بتجديد إقطاعه الجيش لعامر كي يتجنّب الانقلاب عليه ويضمن استمراره في حماية السلطة.
والحال أنّ عبد الناصر وعامر لم يستثمرا الوقت والموارد المطلوبة لخلق جيش كفء في الستينات، بعدما تبيّنت لهما قدراته الفعليّة الهزيلة في 1956. ففضلاً عن وجود 70 ألف جنديّ مصريّ في اليمن، انشغل عامر وأزلامه، كشمس بدران ورئيس المخابرات العامّة صلاح نصر، بالصراعات السياسيّة الداخليّة وتعظيم المكاسب المحليّة. ولم يكن بلا دلالة أنّ مديري مكتب المشير كانوا على التوالي: صلاح نصر الذي صار مديراً للمخابرات العامّة، وعباس رضوان الذي تولّى وزارة الداخليّة، وعلي شفيق صفوت الذي تسلّم وزارة الحربيّة.
بعض السجلّ الفضائحيّ
وقد اعتمد عدد كبير من قيادات الجيش في الوصول إلى مناصبهم والبقاء فيها على الشلليّة والتقرّب من عامر. وهذا، على عمومه، ما أثمر فضائح عسكريّة نادراً ما عرفها تاريخ الفضائح الحربيّة:
– فلم تكن المعلومات والبيانات المتوافرة عن قوّة الجيش الإسرائيليّ لدى الجيش المصريّ دقيقة، بل إنّ صور بعض الأهداف الإسرائيليّة في خطّة العمليّات المصريّة كانت قد التُقطت في الحرب العالميّة الثانية، أي قبل نشأة إسرائيل نفسها، وقبل حرب 1967 بأكثر من عقدين.
– كانت هناك على الأقلّ أربع خطط عندما بدأ حشد القوّات المصريّة في سيناء: «قاهر» للمنطقة الشرقيّة، و «فهد» للقوّات الجوّيّة، و «فجر» لعزل جنوب إسرائيل عن ميناء إيلات، و «سهم» لقطع الطريق على القوات الإسرائيليّة بين رفح وغزة. لكنّ هذه الخطط والإستراتيجيّات لم تكن سوى «حبر على ورق»، إذ لم تكن هناك إمكانات لتنفيذها ولا معلومات دقيقة عن العدوّ. وكان للتغيير المتواصل لخطط القتال أن أنهك القوّات الميدانيّة التي تحرّك بعضها مرّات عدّة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.
– جرت «محاولة وحيدة للحصول على معلومات بالتصوير الجوّيّ قبل الحرب» وكانت نتيجتها «صورة التقطتها طائرة استطلاع لميناء العقبة العربيّ الأردنيّ بدلاً من ميناء إيلات المطلوب تصويره».
– تلاحقت المعلومات الكاذبة. مثلاً، في 24/5 قدّمت المخابرات الحربيّة تقييماً قارنت فيه القوّات المصريّة بالإسرائيليّة وادّعت أنّ لدى مصر من المشاة والمدرّعات ثلاثة أضعاف ما لدى إسرائيل، والحقيقة أنّ الأخيرة امتلكت 1.7 ضعف ما لدى مصر من المشاة، وحوالى ضعف ما لديها من المدرّعات، وأكثر من 250 في المئة ممّا لديها من طيّارين.
– لم يهتمّ القادة، في سنوات ما قبل الحرب، بتدريب وحدات الجيش في مناورات فعليّة، إذ لم تنفّذ القوّات المسلّحة مناورات كهذه منذ 1954 في طريق مصر الإسكندريّة الصحراويّ. وخلال 1965-66 لم تطلق أيّة دبّابة في الجيش أكثر من طلقة واحدة بغرض التدريب، وإبّان 1965-67، لم يُدرّب أيّ لواء مكتمل، بل كانت التقارير عن التدريبات تُزوّر أحياناً لإرضاء المسؤولين الأعلى.
– اهتمّ النظام بالتصنيع الحربيّ لصواريخ بعيدة المدى ولطائرات مقاتلة حديثة، فأقيمت المصانع وأطلقت على الصواريخ أسماء القاهر والظافر والرائد، بل بدأ تصنيع محرّك طائرة مقاتلة. لكنْ على رغم هذه المجهودات والأكلاف، وعلى رغم محاولات الخبراء الألمان، تمخّضت تلك الخطّة الطموحة عن لا شيء، اللهمّ إلاّ الاستعراض السنويّ لهياكل الصواريخ الفارغة، وبعضها خشبيّ، في مناسبات النظام الكبرى.
– هكذا حين أرادت القوّات المسلّحة التعبئة للحرب، أصدرت 178 أمر استدعاء بين منتصف أيار و5 حزيران، لكنّ النقص في قوّات الجيش صبيحة المعركة زاد عن 33 في المئة من العدد المطلوب. فمن بين 120 ألف جنديّ احتياطيّ، استجاب 80 ألفاً فقط وتخلّف 40 ألفاً. فوق هذا فخلال أسبوعين، بُدّل 12 قائد فرقة ولواء، واستُحدثت 15 قيادة تعبويّة وتكتيكيّة وإداريّة جديدة.
– في القوّات الجوّيّة، لم تكن هناك دشم تحمي الطائرات من القصف، بدعوى عدم توافر الموازنة، وحتّى يوم الهزيمة كانت هناك عشرات الطائرات لا تزال في الصناديق، وكان عدد الطائرات يتجاوز عدد الطيّارين بـ 50 في المئة على الأقلّ، وهو عكس المألوف عسكريّاً (طيّاران لكلّ طائرة). كذلك كانت فترة تجهيز الطائرة للقيام بطلعة جوّيّة 45 دقيقة، لعدم توافر التدريب والتجهيزات، بينما المدّة اللازمة للطائرة الإسرائيليّة 8 دقائق.
– حتّى بدء القتال لم تكن لدى القوّات المسلّحة قيادة موحّدة، ووصل التردّي إلى حدّ أنّ القيادات في المستويات المختلفة اعتادت ألاّ تنفّذ أمراً إلاّ إذا شاهدت توقيع المشير شخصيّاً أو توقيع بدران.
– لم تفعل القوّات الجوّيّة شيئاً لحماية مطاراتها وطائراتها الرابضة على الأرض، مكتفية بتقييم للمخابرات الحربيّة مفاده أنّ مدى الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة لا يمكنه أن يتعدّى القناة. (وفي صباح 5/6، عند بدء الحرب، وصلت رسالة أردنيّة مشفّرة إلى القيادة المصريّة تفيد بأنّ الطائرات الإسرائيليّة في طريقها إلى مصر لكنْ لم يوجد من يتلقّى الرسالة، أمّا الذي تلقّاها وقرأ: «عنب عنب عنب»، فكان تعليقه: «عنب إيه وبصل إيه؟»).
– وقد يكون أهمّ من كلّ شيء آخر ما رواه لاحقاً الوزير أمين هويدي عن أحوال تشكيلات عسكريّة أتيح له أن يعاينها: «أكثر من 60 في المئة من الأفراد لم يستلموا رواتبهم منذ شهور طويلة قبل النكسة بحجّة ضياع أوراقهم في اليمن، وأكثر من 80 في المئة من القوّة [كانوا] مصابين بالأنكلستوما والبلهارسيا لتعذّر نقلهم إلى الخلف للعلاج. العشرات مصابون بالفتاق، وملابس الجنود غير لائقة، وأكل الجنود لا يكاد يكفي إلاّ عدداً قليلاً منهم…». ووفقاً لوصف شابّ انضمّ إلى القوّات المسلّحة آنذاك: «تصادف حضوري مع دفعة من شباب الفلاّحين قادمين من محافظة الغربيّة، وشاهدت هؤلاء الشباب يُعامَلون كأنّهم بقايا عبيد الأرض أو جيش السخرة الذي بنى الأهرامات وحفر قناة السويس، فالضرب والإهانات بلا سبب، والإرغام على مزاولة بعض حركات القردة من دون مبرّر هي الأساليب التي شاهدتها…».
أيّ نموذج؟
لقد اندفع عبد الناصر في الوجهة التي اندفع فيها مستجيباً للمزايدات العربيّة عليه بأنّه لا ينوي «تحرير فلسطين»، فيما كان الاهتمام الفعليّ لنظامه وأجهزته الأمنيّة منصبّاً على ضمان ولاء الجيش، وعدم حصول «مؤامرة» إخوانيّة. لكنْ في مساء 5 حزيران، حين دُمّر سلاح الجوّ ومطاراته، وتُرك الجنود والمجنّدون في سيناء من دون غطاء جوّيّ، كان ردّ فعله الأول، بعد لحظات من التأمّل «مضطجعاً على السرير»، أن طالب عامر بأن يرسل إلى الصحف ما يفيد «أنّنا توغّلنا في أرض العدوّ وخلافه، لأنّ العدوّ يذيع بيانات عن المعركة ونحن لا نذيع شيئاً». ونعرف، من مصادر أخرى، انهماكه بدفع الملك الأردنيّ حسين لأن يعلن عن تدخّل عسكريّ مباشر، أميركيّ وبريطانيّ، في الحرب.
وقد تكشّفت الأمور عن هزيمة مطنطنة واستقالة لعبد الناصر ما لبث أن تراجع عنها وموت غامض لعامر. لكنّ حملة الأكاذيب استمرّت على يد محمّد حسنين هيكل الذي سكّ تعبير «النكسة» ليقول إنّ ما حصل عَرَض طارىء في مسيرة صاعدة، وأنّه أصغر بلا قياس من «نكبة» 1948. وهو، خصوصاً في كتابه «الانفجار»، سوّق نظريّة المؤامرة ومسؤوليّة عامر وحده، أمّا أضلاع المؤامرة الثلاثة ومخطّطوها في الولايات المتّحدة فكانوا من تجّار السلاح وعملاء المخابرات وشركات البترول، وإليهم انضمّت إسرائيل فتشكّلت «الحكومة السرّيّة» بقيادة مستشار الأمن القوميّ والت روستو، وذراعه اليمنى رجل المخابرات روبرت كومر. وبالطبع كان هدف المؤامرة تدمير الثورة المصريّة وعبد الناصر لوقوفهم في طريق مخطّطات واشنطن ومصالحها في المنطقة. وعلى نحو أو آخر، لا يزال هذا التخريف ساري المفعول في أوساط ثقافيّة وفكريّة وسياسيّة، قوميّة ويساريّة، على مدى العالم العربيّ.
بيد أنّ الفارق جاء مرعباً بين ادّعاء رفع الرأس أمام الخارج والتشدّق بعدم الانحياز في الخطب البلاغيّة وبين واقع أنّ مصر صارت بعد سنوات طويلة من الاستقلال تحصل على سلاحها وغذائها من الخارج، أي أنّ «عدم الانحياز» بات يعني الجمع بين السلاح السوفياتيّ والغذاء الأميركيّ على جثّة اقتصاد يئنّ تحت وطأة العجز والمديونيّة.
لقد أثمر النهج القائم على إلغاء الأحزاب وتزوير الانتخابات وتأميم الصحافة وعبادة الشخصيّة والقضاء على استقلاليّة القضاء وتحكيم المخابرات وتفشّي الشلليّة التي لا تخضع لأيّ حساب، فكانت هزيمة حزيران، وكان نموذج من التفاهة لا يحتاج أيّ عدوّ له أن يتآمر عليه.
ومصدر العلّة، في نهاية المطاف، الحكم العسكريّ الديكتاتوريّ الذي لا رقابة عليه وعلى ما يجري داخله. فمنذ حكومة محمد نجيب في 1952 وحتّى آخر تعديل وزاريّ أجراه عبد الناصر في 1968، تولّى العسكريّون حوالى 34 في المئة من المناصب السياسيّة الرئيسيّة، ومع أن الـ66 في المئة المتبقية ذهبت إلى مدنيّين، فمناصبهم في غالبيتها كانت تحت سلطة العسكريّين ممّن تولّوا نيابة رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة ووزارات الحربيّة والإنتاج الحربيّ والمخابرات والإعلام والداخليّة، إضافة إلى رئاسة مجالس إدارات الصحف أو رئاسة تحريرها. وفي وزارة الخارجيّة، وبحلول سنة 1962، كان العسكريّون قد شغلوا 72 في المئة من المناصب المهمّة، فكان جميع سفراء مصر في أوروبا عسكريّين باستثناء ثلاثة. كذلك ذهب نحو 80 في المئة من مناصب المحافظين إلى ضبّاط جيش وشرطة.
والحالة هذه لا تزال، حتّى اليوم، حالة مصر، ولا يزال القادة المعصومون يتناوبون على رفع رأسها ورؤوس مواطنيها.
الحياة