في حال كان كبار المسؤولين في لبنان عاجزين عن الاقدام على أي خطوة في اتجاه الخروج من حال الانهيار التي يعاني منها البلد، فان افضل ما يستطيعون عمله في مواجهة الكارثة يتمثّل باحترام، في الحدّ الادنى، لعقول الناس.
تتطلب الترجمة العملية لاحترام عقول الناس، الاعتراف بالامر الواقع. ويتمثّل في انّ لا مصلحة من أي نوع للبنان في ان يكون تحت قانون «سيف قيصر» الأميركي الذي فرض عقوبات على النظام في سورية وعلى كلّ من يتعاطى معه من قريب او بعيد.
يروي أحد الذين يعرفون الوضع السوري جيّداً، ان كلّ الكلام الإيراني عن دعم النظام السوري، من الناحية الاقتصادية، كلام لا معنى له في الوقت الحاضر، خصوصاً بعدما صارت ايران دولة مفلسة.
تبحث «الجمهورية الإسلامية» عن الدولار تحت سابع أرض في ضوء العقوبات الأميركية المفروضة عليها. يتحدّث المسؤولون الإيرانيون عن فتح خط ائتمان يسهّل استيراد سورية لبضائع إيرانية.
يبقى هذا الكلام مجرّد كلام نظراً الى انّ الشركات الإيرانية التي لديها ما تصدّره تريد التعامل بالدولار او بعملة صعبة أخرى مثل اليورو. من أين يأتي النظام السوري بالدولار بعدما يكاد ضرع لبنان ان يجفّ؟
فوق ذلك كلّه، ان الشركات الإيرانية التي لا تزال قادرة على التصدير، بسبب تعاطيها بالاكل والشرب وما شابه ذلك، ليست على استعداد للتعاطي مع سورية القابعة تحت النظام بسبب «قانون قيصر».
نعم «قانون قيصر» الذي وراءه «الشيطان الأكبر». من يريد في لبنان اخذ العلم بانّ «قانون قيصر» يخيف حتّى الشركات الإيرانية، فكيف الامر مع الشركات الصينية والروسية والاوروبية؟
يكفي القاء نظرة سريعة الى ما يدور في المنطقة كي يعود كبار المسؤولين اللبنانيين الى صوابهم. لا حاجة الى لف ودوران ولا الى رفع شعارات والاستعداد لتحرير القدس. الحاجة الى بعض المنطق مع بعض الوضوح ولافكار في غاية البساطة.
يعاني لبنان من أزمة فقدان الدولار. لا ينفع في معالجة هذه الازمة لا الاستعانة بمصرف لبنان، أي بالبنك المركزي الذي لا يطبع دولارات، ولا باي إجراءات داخلية اخرى. يظلّ الكلام عن تطوير الصناعة والزراعة كلاماً جميلاً.
هذا لا يمكن حصوله بين ليلة وضحاها بمقدار ما انّه يحتاج الى خطط ودراسات واستعانة بخبرات اجنبية. يحتاج مثل هذا التطوّر اوّل ما يحتاج الى طقم سياسي جديد على علاقة بما يدور في الداخل اللبناني وفي المنطقة والعالم.
لا يستطيع مصرف لبنان ضخ كمّية من الدولارات في السوق من اجل دعم الليرة. اذا استمرّ في ضخّ الدولارات، علماً انّه لا يمتلك الكثير من الدولارات في خزائنه، فانّ ذلك لن يقدّم ولن يؤخّر. سيساعد ذلك في مزيد من الفوضى في الأسواق المالية اللبنانية التي تقتصر على تعاملات بين الصرافين وزبائنهم بطريقة بدائية.
باختصار شديد، لن يتحسّن وضع الليرة التي تعاني من سقوط حرّ من أي قيود في غياب دخول دولارات الى لبنان. من اين يمكن ان تأتي الدولارات؟ هناك تحويلات اللبنانيين المقيمين في الخارج التي خفّت كثيراً. بين ما جعل هذه التحويلات تخفّ انّه لم يعد أي لبناني يأتمن أي مصرف في بلده على أموال يرسلها الى البلد.
كيف يمكن للبناني او عربي او اجنبي التعاطي من الآن فصاعداً مع المصارف الموجودة في لبنان بعدما أصبحت هذه الأموال محجوزة؟ كيف يمكن للبنانيين عملوا سنوات طويلة في الخارج ويريدون التقاعد في بلدهم ان تكون الأموال التي جمعوها خارج متناولهم؟ هذه سرقة بكلّ معنى الكلمة. هل يفهم كبار المسؤولين اللبنانيين معنى فقدان الثقة بالمصارف، أي بلبنان؟
لنضع أموال اللبنانيين وتحويلاتهم جانبا، هل يستطيع ايّ مسؤول لبناني يمتلك الحدّ الأدنى من الشجاعة ان يسأل نفسه لماذا لم تعد هناك دولة عربية على استعداد لمساعدة لبنان؟
الجواب بكلّ بساطة ان لبنان، حيث صار «حزب الله» الحزب الحاكم، تحوّل الى قاعدة إيرانية وإلى قاعدة إعلامية مخصصة لشتم العرب.
هناك بلد لا يدرك فيه «حزب الله» انّ لبنان بلد عربي وانّ مهاجمة أي دولة عربية، خصوصا المملكة العربية السعودية، لا يمكن ان يمرّ مرور الكرام، كما كانت عليه الحال في الماضي.
هناك مصدر آخر للدولار، هو المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد. لدى هذه المؤسسات شروطها التي لا يوجد في لبنان، بين المسؤولين طبعاً، من يستطيع التعاطي معها.
تنقص المسؤولين عن القطاع المالي والاقتصادي عموما أيّ رؤية مستقبلية. يهرب هؤلاء من سؤال بسيط: لماذا لم يستطع لبنان الاقدام على أي إصلاحات تسمح له بالاستفادة من «مؤتمر سيدر» الذي انعقد في باريس في ابريل 2018؟
لم يكن لهذا المؤتمر ان ينعقد لولا سعد الحريري رئيس الوزراء وقتذاك الذي يمتلك علاقات عربية ودولية لا يمتلكها غيره.
لم يستطع الحريري القيام بايّ إصلاحات في ظلّ حكومة برئاسته يرغب الطرفان الاساسيان فيها، أي «حزب الله» و«التيّار الوطني الحر»ـ وضع كلّ العراقيل التي تقف في وجه أي إصلاحات من أيّ نوع وذلك كي يبقى لبنان في «جبهة الممانعة» التي تقودها ايران…
سيظلّ الدولار يهرب من لبنان، لا لشيء سوى لان ليس فيه، في موقع المسؤولية، من يعرف شيئاً عن العالم وكيف يشتغل العالمـ وما هي أميركا وأوروبا، ولماذا لا يوجد عربي يريد مساعدة لبنان…
مسكين لبنان. لا يوجد فيه حتّى من يعرف ما هي الصين وكيف تعمل شركاتها. عندما تكون هناك شركة صينية تعمل في بلد ما، فانّها تأتي بالعمال من الصين. يقيم هؤلاء في مجمعات خاصة بهم. يأكلون معلبات تأتيهم من الصين ويقصون شعورهم على يد حلّاق صيني داخل المجمّع!
يعاني المسؤولون اللبنانيون من الجهل، يجهلون حتّى ان لبنان شريك تجاري للصين منذ نصف قرن واكثر.
من الواضح ان الجهل اللبناني لا يتعلّق بالسياسة فقط. يتعلّق بالاقتصاد أيضاً. هناك، كما قال الصديق نديم منلا المستشار الاقتصادي للحريري، «محاسبون»، فيما لا يوجد من يمتلك أي سياسة او رؤية مالية من أي نوع. ان تكون محاسباً، شيء، وان تكون صاحب سياسة اقتصادية ومالية، شيء آخر…