في أواخر كل عام، ومع الإعلان عن جائزة نوبل للآداب، تشهد الصحافة الثقافية في كل مكان من العالم تساؤلات حول هوية صاحب، أو صاحبة، الحظ السعيد. وفي العالم العربي، بشكل خاص غالبا ما تطفو على السطح تأويلات تعيد التذكير بالمركزية الأوروبية، والحسابات السياسية لدى اللجنة المعنية باختيار المرشحين.
ومع ذلك ثمة ما يشبه اللازمة التي ينبغي ألا نكف عن ترديدها في أواخر كل عام: لا أحد يفوز بنوبل للآداب دون رصيد يبرر هذا الفوز. هذا لا يعني، بطبيعة الحال، عدم وجود حسابات أخرى، لكن حساب الجدارة هو الحاسم في الأمر.
وهذا ما يصدق، أيضا، على هيرتا مولر، التي أُعلن عن فوزها بالجائزة قبل أيام قليلة. فهي غير معروفة على نطاق واسع خارج اللغة الألمانية، وحتى في ألمانيا، قوبلت أعمالها بقدر من التحفّظ لأنها، وهي الألمانية التي تعيش في ألمانيا منذ ربع قرن تقريبا، ظلت مشدودة إلى البيئة الرومانية التي نشأت فيها، وهربت منها في أواسط الثمانينيات.
لا توجد ترجمات كثيرة لمولر في لغات أخرى، فعدد ما تُرجم من أعمالها إلى اللغة الإنكليزية، مثلا، لا يزيد عن أربعة أعمال، كان آخرها قبل ست سنوات. وفي هذا الأمر ما يعزز حقيقة إضافية تتعلّق بالجائزة: كثافة الانتشار في لغات أخرى لا تعني، بالضرورة، أن الأكثر انتشارا هو الأكثر جدارة. وبالقدر نفسه، فإن الفوز بالجائزة لا يعني أن الفائز، أو الفائزة، هو الأفضل بين أقرانه ومجايليه، سواء في بلاده أو خارجها، بمعنى آخر، لا وجود لحكم نهائي في هذا الشأن. وفي حالات كثيرة ربما كان الحظ (إلى جانب الجدارة الأدبية) من العوامل الحاسمة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بمولر، ففي سيرة حياتها، كما في أعمالها، مفارقات كثيرة. فقد لجأت إلى ألمانيا الغربية (آنذاك) في أواسط الثمانينيات، وطلبت حق اللجوء السياسي، رغم أنها تستطيع الإقامة بطريقة أكثر يسرا لأنها تنتمي إلى أقلية ألمانية تعيش في رومانيا. لكن طلب اللجوء السياسي كان في نظرها محاولة للتدليل على حقيقة انتمائها إلى بلد آخر، وإلى هربها من النظام الدكتاتوري القابض على عنق ذلك البلد.
وقد تعززت هاتان الحقيقتان في كل ما كتبته في وقت لاحق، عندما كرّست أعمالها لوصف البيئة القروية، التي نشأت فيها، ووصف الأقلية القومية التي لم تكن مفتونة بها، بل كانت معنية بالحفر في الدلالات الثقافية والسياسية والاجتماعية لوجودها كجزيرة لغوية تعاني من التمركز على الذات، وتحرص على الدفاع عن أسباب بقائها حتى وإن استدعى الأمر التمسك بتقاليد بالية، والاحتفاء بعادات قديمة.
كتبت مولر بالألمانية، لغتها الأم، وبعد وجودها في ألمانيا، أصبحت جزءا من المشهد الأدبي والثقافي. وإذا كان كل ما كتبته يندرج في خانة الأدب الألماني، إلا أن ما أضافته إلى اللغة الألمانية يتمثل ـ حسب شهادة النقّاد الألمان ـ في شحن اللغة الأم بالأخيلة والصور والتعبيرات والمشاعر التي نبتت في مكان آخر.
وقد فعلت ذلك استنادا إلى قيم واضحة: فهي معادية للدكتاتورية، ومعنية بالبحث عن التجليات غير المرئية للدكتاتورية في حياة الناس العاديين، الذين يجدون أنفسهم بالصدفة في قبضة مفارقات جغرافية وثقافية وسياسية، غالبا ما تنجم عن تحوّلات تاريخية تتسم بالحدة والعنف.
وهذه الدلالة مستمدة، أيضا، من تاريخ الأقلية الألمانية في رومانيا، التي كانت جزءا من إمبراطورية آل هابسبورغ، وقبلها كانت جزءا من أملاك السلطان العثماني، ثم وجد مواطنوها أنفسهم ضمن الدولة الرومانية بعد الحرب العالمية الأولى.
في العالم العربي تصوّرات شبه ناجزة عمّا يدعى الغرب. تصوّرات يُختزل فيها تاريخ أقليات وشعوب وقوميات تعرّضت للتهجير والقتل والقمع، وعاشت في ظل دول مختلفة، مزقتها الحروب وأعادت رسم خرائطها أكثر من مرّة على امتداد قرون، وأحيانا عقود، قليلة.
في سياق هذا الاختزال يضيع التاريخ الأوروبي، ولا يحضر منه سوى تاريخ القوى الكولونيالية الكبرى، الفرنسية والإنكليزية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعلى امتداد القرن العشرين، أما أوروبا العثمانية، وأوروبا القوميات المتناحرة، والجزر القومية واللغوية المعزولة والممزقة فتختفي من الصورة بطريقة محزنة.
وإذا كان ثمة من فائدة لفوز هيرتا مولر بنوبل للآداب، فإنها تتمثل في إعادة التذكير بحقائق من نوع أن تاريخ أوروبا يتكوّن من تواريخ، وأن الغرب كالشرق تماما فكرة متخيّلة في أحيان كثيرة، وأن الأدب، وحده، يشبه الصندوق الأسود الذي تسجل فيه أقليات مختلفة الكثير من كوابيسها، وأنينها التاريخي الطويل، وصرخات الاستغاثة، إلى جانب تحجرها، ومجانية حياتها، وعبثية وجودها.
لذلك، يصعب النفاذ إلى عالم مولر الروائي دون مرجعية تاريخية تضع مصير الأقليات القومية واللغوية في الحسبان، وخاصة الأقلية الألمانية التي نشأت فيها وكتبت عنها، ودون الجرح الشخصي الذي عانت منه بعدما اكتشفت أن أباها كان متعاونا مع النازي، وأن الكثيرين من أبناء جيله فعلوا الأمر نفسه. وبالمناسبة عاشت في رومانيا وما تزال أكثر من أقلية ألمانية، لكنها عاشت منفصلة عن بعضها، وبلورت هويات مختلفة رغم وجود اللغة المشتركة. وبالقدر نفسه يصعب استكشاف ذلك العالم دون الكلام عن الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية والوسطى.
أخيرا، مع فوز مولر تعود نوبل للآداب إلى ألمانيا، وقد فاز بها ألماني آخر هو غونتر غراس قبل عشر سنوات. والمهم في هذا الصدد أن غراس ينتمي إلى منطقة توجد الآن ضمن حدود الدولة البولندية.
في الحالتين يشهد الأدب على المصائر المختلفة لجماعات بشرية عاشت وشهدت تحوّلات راديكالية مؤلمة على امتداد القرنين الماضيين، وبالقدر نفسه يشهد على حيوية وكفاءة ثقافة تستمد طاقاتها الإبداعية من تعدديتها وقدرتها على الاستيعاب والتأقلم، ومن شجاعة كتّاب لا يعبدون تاريخهم الشخصي، أو تاريخ جماعاتهم القومية، بل يبحثون عن الحقيقة والمعنى، حتى وإن كانت الفضيحة هي الثمن. وفي هذا وذاك عبرة للناظرين.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني – برلين
عن جريدة الأيام