الحديث المتكرر عن نواب التأزيم ونواب الصراخ بوصفهم سبب الأزمة السياسية في الكويت، حديث يفتقد إلى المصداقية، ويمثّل رؤية غير واقعية للأزمة. فتاريخ الصراع السياسي في الكويت بين الحكومة والتجمعات السياسية أو بين السلطة والمعارضة لم يكن سببه ذلك، بل هناك من يتهم الحكومة بالترويج لهذا السبب لإبعاد الأزمة عن أسبابها الحقيقية. وتاريخ الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، خاصة الصراع في مجلس الأمة، لم يكن دافعه الأسباب المطروحة في الوقت الراهن والمرتكزة على سلوك نواب الصراخ والتأزيم، والتي اعتبرها أسبابا ثانوية بل وهامشية. فجميع مجالس الأمة التي تم حلّها، وجميع الأزمات التي حدثت بين السلطة والمعارضة، لم تكن أسبابها ما يُطرح راهنا، بل تنحصر الأسباب الحقيقية في عوامل أخرى تقع تحت عنوان رئيسي هو ضيق السلطة والحكومة من الديموقراطية كمفهوم ونهج وممارسة وأطر وشروط. ولعل أبرز تلك الشروط ما يندرج تحت عنوان الحرية والمساواة والتعددية واحترام حقوق الإنسان، المكفولة جميعها في الدستور.
لذا باعتقادي أن حرية الرقابة والنقد والتعبير التي كفلها الدستور لنائب مجلس الأمة، وقبله للمواطن، هي أحد الأسباب الرئيسية للأزمة السياسية في البلاد. فهي تكفل للنائب ممارسة دوره الرقابي والتشريعي، وتكفل للمواطن ممارسة دوره الناقد للأوضاع السياسية. وذلك يجعل السلطة والحكومة تضيقان من هذا الأمر. بل إن مخرجات ثقافة المراقبة قد تجعلهما في الضد مما جاء في الدستور من حثٍ على المساءلة والنقد، وهو ما يساهم في توتير العلاقة بين السلطتين التفيذية والتشريعية ويدخل البلاد في أزمات متتالية، مما قد يجعل أحد طرق الحل هو تعليق العمل بالدستور. لذا من الطبيعي أن تسير الأمور السياسية إما إلى استقالة الحكومة أو إلى حل مجلس الأمة مع بقاء الأزمة السياسية على حالها، ما يجعل صورة الوضع السياسي أمام أمرين: إما القبول بالديموقراطية بجميع شروطها المكفولة بالدستور، والمطالبة بأكثر من تلك الشروط في المستقبل، وإما استمرار الأزمات السياسية وتعطّل حركة الإصلاح والتطوّر والتنمية. فالصراخ واستخدام الألفاظ غير المعتادة ليست هي سبب الأزمات، إنما الإصرار على استخدام أدوات الرقابة الدستورية من أجل كشف ملابسات أخطاء الحكومة وممارسة الدور النقدي الواضح والشفاف.
وفي نظرة سريعة إلى أسباب حل مجلس الأمة عام 1985 والأزمة السياسية التي شهدتها البلاد آنذاك، سوف نجد بعضا منها شبيهة إلى حد كبير بأسباب الأزمة الحالية. ففي ديباجة الأمر الأميري الصادر بالحل نجد ما يلي: “لقد تعرضت البلاد لمحن متعددة وظروف قاسية لم يسبق أن مرت بمثلها مجتمعة من قبل، فتعرض أمنها إلى مؤامرات خارجية شرسة هددت الأرواح وكادت أن تدمر ثروات هذا الوطن ومصدر رزقه، وكادت نيران الحرب المستعرة بين جارتيها المسلمتين أن تصل إلى حدودها، وواجهت أزمة اقتصادية شديدة، وبدلاً من أن تتضافر الجهود وتتعاون كل الأطراف لاحتواء هذه الأزمة تفرقت الكلمة وانقسم الرأي وظهرت تكتلات وأحزاب أدت إلى تمزيق الوحدة الوطنية وتعطيل الأعمال حتى تعذر على مجلس الوزراء الاستمرار في مهمته. ولما كانت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد لن ينقذها منها إلا عمل حاسم وجاد، ولما كانت المؤامرات الإجرامية التي يتعرض لها الوطن لن يوقفها إلا اليقظة التامة والاستعداد الكامل والوحدة الوطنية الشاملة. ولما كانت ظروف المنطقة تتميز بالحرج وتحيطها ملابسات دقيقة وخطرة، ولما كان استمرار الوضع على ما هو عليه سيعرض الكويت إلى ما خشيناه ونخشاه من نتائج غير محمودة. ولما كانت الحرية والشورى نبت أصيل نما وازدهر منذ نشأت الكويت، وكانت الكويت هي الأصل وهى الهدف وهي الباقية، أما ما عداها فهو زائل ومتغير وفقاً لحاجاتها ومصالحها، فإن استمرار الحياة النيابية بهذه الروح وفي هذه الظروف يعرض الوحدة الوطنية لانقسام محقق ويلحق بمصالح البلاد العليا خطراً داهما، لذلك رأينا حرصاً على سلامة واستقرار الكويت أن نوقف أعمال مجلس الأمة”.
ويعتقد مراقبون أن المواجهات التي حدثت بين مجلس الأمة عام 1985 وبين الحكومة، وكان وراءها الدور الرقابي المتشدد للبرلمان والدور النقدي الواضح والشفاف، هي التي كانت وراء حل المجلس. ومن ضمن تلك المواجهات، نشير إلى مسألتين، الأولى هي أزمة المناخ، التي يجمع المراقبون على دورها البارز في التأثير على الاقتصاد الكويتي. فقد صاحب الأزمة تشكيل مجلس الأمة للجنة تحقيق، وندب عضو من اللجنة للطلب من وزير المالية والاقتصاد صورة من محاضر اجتماعات مجلس إدارة البنك المركزي وصورة من التقارير الخاصة بالنقد، وقد رفض وزير المالية والاقتصاد ذلك لأن الإجابة على الطلب تتضمن افشاء معلومات تتعلق بشؤون البنك المركزي وعملائه والبنوك الخاضعة لرقابته، مما دعى الحكومة إلى طلب تفسير نص المادة 114 من الدستور لبيان ما إذا كان حق مجلس الأمة في تشكيل لجان للتحقيق أو ندب عضو من أعضائه للتحقيق وفقاً للمادة سالفة الذكر حقاً مطلقاً لا يحده شيئاً ويشمل كل الأمور التي يقررها المجلس، وقضت المحكمة الدستورية بأن حق مجلس الأمة في اجراء تحقيق نيابي على مقتضى المادة 114 من الدستور يشمل أي موضوع مما يدخل في اختصاصه التشريعي أو الرقابي وما يجري فيه التحقيق بخصوص البنك المركزي يقتضي إطلاع عضو باللجنة للتحقيق في كافة الوثائق والأوراق والبيانات.
أما المسألة الثانية، فيشير المراقبون إلى ظاهرة توالي الاستجوابات في مجلس الأمة عام 1985، إذ قدم استجواب من النواب مبارك الدويلة والدكتور أحمد الربعي وحمد الجوعان لوزير العدل والشئون القانونية والإدارية. وبعد مناقشة الاستجواب قدم اقتراح بسحب الثقة من الوزير الذي آثر على تقديم إستقالته قبل يومين من موعد انعقاد جلسة مجلس الأمة التي كانت محددة للتصويت على طرح الثقة به. وعقب ذلك قدم النواب ثلاثة استجوابات جديدة إحداها لوزير المالية والإقتصاد قدمه ناصر البناي وخميس طلق عقاب وسامي المنيس، والثاني لوزير النفط والصناعة وقدمه مشاري العنجري وجاسم القطامي والدكتور عبدالله النفيسي، والثالث لوزير المواصلات وقدمه النواب محمد المرشد وفيصل الصانع وأحمد باقر، الأمر الذي ضاقت معه الحكومة واعتبرته إفراطاً يهدد التعاون بين السلطتين.
إن ضعف أداء الحكومة وعدم جديتها في معالجة الكثير من المفاسد وترددها في إنجاز العديد من المشاريع الاسراتيجية التنموية، يحسب ضدّها ويجعلها المسؤول الأول عن استمرار الأزمة السياسية الراهنة في البلاد. فأكثر من مراقب للوضع السياسي يشدد على أن أداء الحكومة ضعيف، وأنها تفتقد لبرنامج عمل, وتتخوف من الاستجوابات، وتسعى إلى تأزيم الوضع السياسي بمجرد صعود قضية الاستجوابات إلى السطح. أما الإشارة إلى أن بعض الوزراء لا يستطيع مواجهة الاستجوابات أو حتى ليست لديه القدرة على الكلام داخل قاعة عبدالله السالم، فإنه ليس كلاما جديدا إذ صدر الكثير منه في المجالس النيابية السابقة ولم يؤد إلى ما نراه راهنا من صور التأزيم، ما يعني أن هناك إصرارا حكوميا على تشكيل صور التأزيم الراهن وفق مقاييسها الخاصة، وأحد تلك المقاييس هو رفض الاستجوابات، وبالذات ضد رئيس الحكومة، ورفع سقف التعسف في تطبيق القانون ضد كل من ينتقد الحكومة ورئيسها والوزراء، مما يؤشر على ضيق صدر الحكومة من موضوع النقد ومن حرية التعبير، وخشيتها من الدور الشعبي المعارض لها الساعي إلى التحكيم بينها وبين التجمعات السياسية.
ويضع الخبير الدستوري الدكتور محمد الفيلي أصبعه بدقة على جرح الأزمة السياسية. إذ يتساءل: لماذا تحدث ضجة وأزمة حينما يتم تقديم استجواب لرئيس مجلس الوزراء؟ ويؤكد بأن أهم أسباب الأزمة السياسية تتمثل في تفسيرات الحكومة الدائمة لكلمة استجواب على أنها أزمة وخط أحمر لا يمكن تجاوزه، معتبرا أن ذلك مبدأ مرفوض لأننا في نظام برلماني قائم على مبدأ “الفصل المرن بين السلطات”، موضحاً أن مبدأ الفصل بين السلطات يقوم على أساس تحديد ثلاث سلطات في الدولة هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وكل سلطة تملك من الأدوات الدستورية ما يتيح لها ردع السلطات الأخرى في حال تجاوزت هذه السلطات حدودها وتعدت على حدود السلطات الأخرى، مضيفاً أن الحوار بين السلطات إلزامي وليس اختياريا، وفي حال تقديم أي استفسار أو تساؤل من قبل أي سلطة، فالسلطة الأخرى ملزمة بالرد. واعتبر الفيلي أن الاستجواب أحد الادوات الدستورية للحوار بين السلطات، ولكن هناك إفراطا في الحساسية من قبل الحكومة اتجاه فكرة الاستجواب، نظراً لضيق فكرة الحوار في مجتمعنا والتي تنتهي في معظم الأحيان إلى “تكسير الرأس” من دون إيجاد أي حلول تذكر.
لقد مرت على الكويت منذ وضع الدستور عام 1962 أربع أزمات حقيقية على الصعيد الديموقراطي أدت إلى تعطيل العمل بالدستور، الأولى عام 1967 حينما زُورت الانتخابات، فيما حل البرلمان وعطل العمل بالدستور خلال الفترة 1976 – 1980، و1986 – 1992، وتخللت هذه الفترة مواجهات أمنية، وخرجت التجمعات السياسية تطالب بإعادة العمل بالدستور، كما تعرضت الحريات العامة خلال فترات الحل غير الدستوري لمجلس الأمة للتقييد وفرضت رقابة مسبقة على الصحف. ومنذ عودة الحياة البرلمانية عام 1992 بعد الغزو العراقي، تم انتخاب خمسة مجالس للأمة، انتهت أربعة منها بالحل الدستوري، أعوام 1999 و2006 و2008 و2009. ويعتقد غالبية المراقبين أن السبب الحقيقي في ذلك يرجع إلى تعاظم الدور الرقابي. وإذا كان هناك من تفسير لكلمة رقابي فإنها تعني بالدرجة الأولى الدور الناقد لسياسات الحكومة وأسلوبها في إدارة البلاد. لذلك فإن ما تحت السطح لايزال تحت السطح، وأسباب الأزمات السابقة لم تختف، كما يقول الدكتور شفيق الغبرا.
لذلك، يؤكد بعض المراقبين أن وراء الأزمة السياسية ليس تعدد المواجهات بين الحكومة ومجلس الأمة، ولا في اللجوء دائمًا إلى خيار استقالة الحكومة أو حل البرلمان، فهذه المظاهر ليست إلا تعبيرًا عن العرض لا المرض. فتعدد المواجهات وسخونة التفاعلات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تُعَدّ علامة صحية، أو على الأقل لا تعني بالضرورة أن العلاقة بين الطرفين غير سوية، كما يقول الكاتب سامح راشد. والمشكلة الحقيقية هي أن الأزمات السياسية تمرّ في كل مرة بالتسلسل ذاته. وفي حقيقة الأمر من غير المحتمل بحال أن يطرأ تغير على هذا النمط، وذلك نتيجة للخلل الأصلي في صلب النظام السياسي، حيث لا غلبة حقيقية لأي من السلطتين التنفيذية والتشريعية على الأخرى. فبصرف النظر عن مواد الدستور وما يتيحه مثلاً للبرلمان من قدرة على سحب الثقة من أحد الوزراء أو الحكومة كلها أو رئيسها، فإن الأمر الواقع يشير إلى أن القرار الأخير يظل دائمًا في يد أمير البلاد، الذي يملك رفض إجراء تغيير وزاري، بل وحل البرلمان. فبخلاف المتعارف عليه في النظم السياسية البرلمانية، تقتصر صلاحيات مجلس الأمة الفعلية على المهام التشريعية والرقابية، ولا تمتد هذه الصلاحيات – حسبما يفترض في السلطة التي تنوب عن الشعب – إلى القدرة على تصحيح مسار السلطة التنفيذية. ومن هنا تتعدد الأزمات مع كل خلاف أيًّا كان حجمه، حيث لا يملك البرلمان مصادر قوة فعلية تمكنه من إجبار الحكومة على التراجع عن قرارها. لذا يلجأ البرلمان دائمًا إلى أسلوب الاستجوابات البرلمانية بالتوازي مع إثارة حملة إعلامية وتأليب الرأي العام على الحكومة ورئيسها في الموضوع محل الخلاف.
ssultann@hotmail.com
• كاتب كويتي