ما حصل في واشنطن كان امرا اكثر من طبيعي في ضوء العلاقة السيئة القائمة منذ فترة طويلة بين دونالد ترامب وركس تيلرسون. لم يتردّد تيلرسون في وصف ترامب بـ”الاحمق” في مرّة من المرات. ما ليس طبيعيا ان يقيل رئيس الولايات المتحدة وزير الخارجية بالطريقة التي لجأ أيها دونالد ترامب، أي بواسطة تغريدة.
تعمّد ترامب إهانة تيلرسون. هذا لا يحدث عادة في الولايات المتحدة حيث يوجد حدّ ادنى من اللياقات في التعاطي بين المسؤولين في الإدارة الواحدة. لم يراع ترامب، عندما طرد ركس تيلرسون، ايّ لياقات من ايّ نوع. اظهر بكل بساطة انّه رئيس غير تقليدي للقوّة العظمى الوحيدة في العالم. هل يكفي الأسلوب المعتمد في اخراج تيلرسون من وزارة الخارجية كي يستطيع الرئيس الاميركي القول بعد الآن انّه بات طليق اليدين في اتباع سياسة اكثر هجومية في المجال الخارجي، خصوصا مع ايران؟
منذ تولّى تيلرسون وزارة الخارجية الاميركية والسؤال هل لا يزال من وزن لهذه الوزارة؟ ادار الرئيس السابق لشركة “اكسون موبيل”، وهي من اكبر شركات النفط الاميركية، وزارة الخارجية كما لو انّها مؤسسة في حاجة الى إعادة هيكلة كي تتحوّل الى شركة رابحة. لم يفرّق في أي لحظة بين الدور السياسي الذي يفترض لوزارة الخارجية لعبه من جهة وبين الشركة التي كان يديرها من جهة اخرى. كان همّه محصورا في كيفية خفض موازنة الخارجية، كما لو ان الامر يتعلّق بشركة مساهمة وليس بوزارة تلعب دورا على صعيد تنفيذ اهداف سياسية مرتبطة بسياسة اميركا ودورها على الصعيد العالمي.
ليس معروفا، اقلّه حتى الآن، هل كانت اقالة تيلرسون نهاية للحرب الاهلية الدائرة داخل الإدارة ام انّها فصل من فصول هذه الحرب. يطرح مثل هذا السؤال نفسه اذا اخذنا في الاعتبار انّ هناك تيلرسون، الذي اعتمد خطا سياسيا مختلفا عن ترامب، كان قريبا من وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الامن القومي هربرت مكماستر. قبل فترة قصيرة، اصطدم مكماستر بجاريد كوشنر، بصهر ترامب الذي يدير ملفّ الشرق الاوسط، ومنعه من الاطلاع على جزء من المعلومات والملفّات السرّية التي تصل الى البيت الأبيض.
كان سائدا في واشنطن ان ماتيس ومكماستر وتيلرسون يشكلون جبهة تحول دون اتخاذ ترامب مواقف “متهورة” من وجهة نظر هؤلاء الثلاثة. بين هذه المواقف التي يعتبرها الثلاثة “متهوّرة” رفض الولايات المتّحدة التزام بنود الاتفاق في شأن الملف النووي الايراني الموقع في الرابع عشر من تموز – يوليو 2015، وهو الاتفاق الذي يعتبره الرئيس الاميركي ووزيرة الخارجية الجديد مايك بومبيو من اسوأ الاتفاقات التي وقعتها بلادهما في التاريخ.
كان الانطباع ان استقالة او اقالة أي من الثلاثة سيؤدي الى خروجهم جميعا من الإدارة على طريقة نبقى معا او نذهب معا. لم يحصل ذلك بعد، لكنّ هناك كلاما كثيرا في العاصمة الاميركية عن احتمال استبدال جون بولتون، المعروف بمواقفه المتشدّدة من ايران، بهربرت مكماستر. ما الذي سيفعله ماتيس عندئذ، علما انّه لعب الى الآن دورا في جعل وزارة الدفاع تكتفي بالسيطرة عسكريا على شمال شرق سوريا وإقامة قواعد عسكرية فيها والتعاطي بشكل مرن مع تركيا التي تسيطر بدورها، لاسباب كردية، على جزء من الأراضي السورية؟ وضعت اميركا نفسها في منطقة حساسة ومنعت ايّا كان من الاقتراب من “سوريا المفيدة”، شرق الفرات، حيث النفط والغاز والزراعة والثروة المائية. أظهرت المؤسسة العسكرية انّها لن تمزح مع أي طرف يقترب من شرق الفرات. اكدت ذلك عندما قضت الشهر الماضي على مجموعة من المرتزقة الذين يعملون لدى شركات روسية أرادوا الاستيلاء على حقل للنفط.
ما هو مطروح الآن الى ايّ حد سيحصل تغيير في السياسة الاميركية وذلك قبل القمّة التي يتوقّع ان يعقدها ترامب بعد شهرين مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ – اون؟
سيكون شهر ايّار – مايو المقبل مليئا بالاحداث. في هذا الشهر سيتوجب على الولايات المتحدة اتخاذ موقف من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني. هل ترفضه ام تقبل به ضمن شروط معيّنة مستجيبة لرغبات الاوروبيين؟
سيشهد هذا الشهر انتخابات في لبنان يسعى من خلالها “حزب الله” الى تأكيد ان ايران باتت تسيطر على أكثرية النصف زائد واحدا في مجلس النواب اللبناني. ستكون هناك أيضا انتخابات في العراق. تستهدف ايران من هذه الانتخابات تكريس “الحشد الشعبي”، أي الميليشيات المذهبية التابعة لها قوّة سياسية، إضافة الى انّها قوة عسكرية بديلة من الجيش العراقي.
هناك استحقاقات كثيرة تبدو المنطقة مقبلة عليه في ايّار – مايو وحتّى قبل ذلك. يظلّ الاستحقاق الاهمّ ذلك المرتبط بالوضع السوري. كيف ستتصرف الولايات المتحدة في ظلّ الاصرار الايراني على وجود عسكري في الجنوب السوري والموقف الروسي المحيّر الذي لا يريد ان يأخذ في الاعتبار ان هناك رغبة إسرائيلية في التخلّص من القواعد الايرانية والصواريخ التي نصبت في سوريا ولبنان.
في كلّ الأحوال، يبدو ابعاد تيلرسون عن الخارجية الاميركية، حيث لم يكن شخصا محبوبا، مؤشرا الى تغييرات كبيرة ليس على الصعيد الداخلي الاميركي فحسب، بل ايضا على صعيد العلاقة بايران وتركيا وحتّى قطر… والوضع القائم في سوريا حيث يوجد مبرر لتدخل أميركي يقطع الطريق على حرب يمكن ان تشنها إسرائيل على الوجود الايراني.
هذا المبرر هو ما يجري في الغوطة الشرقية التي تشهد احدى افظع الجرائم في القرن الواحد والعشرين. ترتكب هذه الجرائم ميليشيات تابعة للنظام السوري وبقايا جيشه بدعم من سلاح الجو الروسي الذي يستهدف المدنيين من اجل نشر الذعر والدمار. امّا ايران وميليشياتها فتكتفي هناك بدور مساند. هذا عائد الى أسباب غير واضحة بعد قد تكون ذات طابع مذهبي.
يمكن ان تكون الغوطة الشرقية مدخلا كي تظهر إدارة ترامب انّها ليست نسخة طبق الأصل عن إدارة باراك أوباما. من يتابع ما صدر عن بومبيو الذي انتقل من الـ”سي. آي. إي” الى الخارجية لا يستطيع سوى ان يحبس أنفاسه. فوزير الخارجية الاميركي الجديد ليس سوى يميني متطرّف لا يؤمن بامكان التفاهم مع ايران بايّ شكل من الاشكال.
انتظر دونالد ترامب أربعة عشر شهرا ليقول انّه شكل أخيرا الحكومة التي يريدها. انتظر أربعة عشر شهرا ليقول انّه ليس باراك أوباما. هل يثبت ذلك بالفعال وليس بالكلام والتغريدات… ام يكتفي بتصفية حسابات ذات طابع شخصي مع رجل نجح في القطاع الخاص وفشل في كلّ ما له علاقة بالقطاع العام، أي بإدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومواجهة تحديات المرحلة.