أحيت أجهزة الأمن السورية ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على النحو الوحيد الذي يليق بنظام الإستبداد، أيّ شنّ حملة اعتقالات شملت العشرات من النشطاء الديمقراطيين والكوادر الفاعلة التي شاركت في مؤتمر ناجح ونوعي عقده المجلس الوطني لـ”إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”. وقد يقول قائل، محقاً من حيث تأويل أسباب الحملة، إنّ هذه الأجهزة ضاقت ذرعاً باجتماع:
ـ عُقد رغم أنفها، فلم يستأذن سلطة، ولم يحصل على غمزة بغضّ الطرف من سلطة، واستمرّ يوماً كاملاً، وحافظ على درجة عالية من السرّية رغم حضور 163 عضواً من المنتسبين إلى هيئات الإعلان، بين امرأة ورجل وشيخ وكهل وشابّ، وذلك رغم أنّ جمعاً كهذا يندر أن يفلت من الرقابة السرطانية التي تمارسها الأجهزة بحكم الوظيفة والعادة والرغبة؛
ـ وأسفر المؤتمر عن انتخاب أمانة عامة مؤلفة من 17 عضواً، عن طريق اقتراع ديمقراطي شارك فيه أعضاء المؤتمر المنتخَبون والمنتَدبون من مختلف الأحزاب والقوى والهيئات والشخصيات الوطنية المستقلة المنضوية في إطار الإعلان؛
ـ وإلى جانب القدوة الديمقراطية التي كان ينبغي أن يسنّها أهل الإعلان مبتدئين من أنفسهم وهيئاتهم، كانت هذه النتيجة قد أسقطت خيار الاستعاضة عن الانتخاب بمبدأ “التوافق” المسبق على حصص محددة (كوتا!) للأحزاب والقوى والمنظمات، كما أسقطت عدداً من المرشحين الذين كانت السلطة تراهن على استثمار مواقفهم الحالية، مثل مواقفهم السابقة المعروفة واللاحقة المنتظَرة؛
ـ وليس سرّاً أنّ قسطاً كبيراً من رهان السلطة على شلّ “إعلان دمشق” وتعطيل فاعليته السياسية كان يبدأ من تأجيج نقاش زائف حول منح الأولوية إلى “الملفّ الوطني” على حساب “الملفّ الديمقراطي” أم العكس، خصوصاً وأنّ عدداً من قادة الأحزاب المعارضة وبعض الكتّاب والنشطاء وفقهاء الاجتماع السياسي كانوا هم البادئين بإشاعة تنظير (يسراوي، يرتدي مع ذلك معطفاً قوموياً بالياً) يقول بإمكانية الفصل بين العمل الوطني والعمل الديمقراطي؛
ـ ولهذا خرج المؤتمر بوثيقة جيدة، ومتقدّمة تماماً على وثيقة الإعلان التأسيسية، لم تكن مصادفة أنّها سُمّيت “بيان من أجل التغيير الوطني الديمقراطي”، جاء في فقرتها الأولى: “إن المجلس الوطني لإعلان دمشق، إذ انعقد في دورته الأولى بصيغته الجديدة الموسعة التي ضمت تيارات أساسية في مجتمعنا السوري من قوميين ويساريين وليبراليين وإسلاميين ديمقراطيين، يرى أنّ الأخطار الداخلية والخارجية باتت تهدد السلامة الوطنية ومستقبل البلاد أكثر من أيّ وقت مضى، وأنّ سياسات النظام ما زالت مصدراً رئيساً لتفاقم هذه الأخطار، من خلال استمرار احتكار السلطة، ومصادرة إرادة الشعب، ومنعه من ممارسة حقه في التعبير عن نفسه في مؤسسات سياسية واجتماعية، والاستمرار في التسلّط الأمني والاعتداء على حرية المواطنين وحقوقهم في ظلّ حالة الطوارئ والأحكام العرفية والإجراءات والمحاكم الاستثنائية والقوانين الظالمة بما فيها القانون 49 لعام 1980 [الذي يحكم بالإعدام على المنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمين] والإحصاء الاستثنائي لعام 1962 [الذي أسقط الجنسية عن مئات الآلاف من مواطني سورية الأكراد]، ومن خلال الأزمة المعيشية الخانقة والمرشحة للتفاقم والتدهور، التي تكمن أسبابها الأولى في الفساد وسوء الإدارة وتخريب مؤسسات الدولة، وذلك كله نتيجة طبيعية لحالة الإستبداد المستمرة لعقود طويلة”.
هذه حيثيات لا تكفي لكي يستشيط أهل النظام حنقاً وحقداً فحسب، بل هي في الواقع أكثر بكثير ممّا قد تتحمّله الأجهزة الأمنية السرطانية إياها، خصوصاً وأنّ سياقاتها السياسية (ما بعد أنابوليس، ما بعد مفاجأة ترشيح ميشيل سليمان للرئاسة اللبنانية، ما بعد مشاركة إيران في مؤتمر مجلس التعاون الخليجي، ما بعد فشل مشروع القمّة الخماسية المصغّرة السعودية ـ المصرية ـ الأردنية ـ السورية ـ الفلسطينية…) تجعل الإهانة رغبة في الإنتقام. لكنّ المثير حقاً هو أنّ سخط السلطة، وقبل أن يُترجم إلى حملة اعتقالات طالت العشرات، تأخّر عشرة أيام بالتمام والكمال: المؤتمر عُقد يوم 1 كانون الأوّل (ديسمبر) الجاري، والأجهزة شنّت الحملة ليل 10 ونهار 11… وكأنها تريد القول: هكذا نحتفي بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!
في المقابل، ولكي ينتقل المرء من نظام استبداد مشرقي إلى نظام ديمقراطية غربية، لم تكن الذكرى ذاتها قد غابت عن راما ياد، وزيرة حقوق الإنسان الفرنسية السنغالية الأصل، وهي تنعي على بلد اليعاقبة والثورة والكومونة الأنوار وحقوق الإنسان، استقبال دكتاتور مثل العقيد معمّر القذافي: هذه “قبلة الموت”، قالت الوزيرة الشابة قبل أن تطرق المسمار أكثر: “يجب أن يفهم العقيد القذافي أنّ بلادنا ليست ممسحة أقدام يمكن لأيّ زعيم، سواء أكان إرهابياً أم غير ذلك، الحضور إليها ومسح دماء جرائمه بها”. وأيضاً: “فرنسا ليست موازنة تجارية فقط”، و”فرنسا يجب ألا تكتفي بتوقيع اتفاقات تجارية مع القذافي فحسب، بل وأن تطالبه بضمانات حول حقوق الإنسان في بلاده”…
بيد أنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ذهب إلى نقيض ما تتمناه ياد لفرنسا، فحوّل بلاده إلى ممسحة للدكتاتوريات، وأنصاف الدكتاتوريات، والأنظمة كيفما كانت وأياً كانت فظائع ما ترتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان، مقابل أعمال ومشتريات واستثمارات عقود شرطها الأكبر أن تكون دسمة دائماً، لكي تبرّر وضع ملفّات حقوق الإنسان، بل وكامل فلسفات الديمقراطية والليبرالية واقتصاد السوق والمجتمع المدني والعالم الحرّ والمجتمع الدولي، خارج الأجندة أو في قاع سلّة المهملات. ولهذا لم يكن غريباً، وإنْ كان طارئاً، أن يردّ ساركوزي الصاع إلى مثقفّي السان جيرمان (معظم هؤلاء كانوا في صفّه اثناء الحملة الإنتخابية) الواقفين على الهامش، المتكاسلين، الذين لا يتقنون سوى احتساء القهوة بالحليب!
ورغم أنّ العقيد القذافي ليس أوّل دكتاتور يزور فرنسا، ولن يكون الأخير قطعاً (الأحرى القول: أيّ دكتاتور لم يزر هذا البلد الجميل الظريف الحافل بالأطايب والملذات؟)، فإنّ الغضبة التي اجتاحت الساسة والكتّاب والفلاسفة والصحافيين الفرنسيين، وانعكست في مختلف وسائل الإعلام على نحو استحقّ بالفعل صفة “المسلسل اليومي”، تذكرة جديدة بمقدار ما يمكن للديمقراطيات الغربية أن تذهب إليه في ممارسة النفاق الصريح، الفاضح والمكشوف حتى البذاءة (نفى ساركوزي أن يكون القذافي قد جاء في زيارة دولة، لأنّ الرئيس الفرنسي اختار أن يكون أوّل زعيم شرق ـ أوسطي يدشّن هذا الطراز الأرفع من الزيارات الرسمية في عهده، هو الإسرائيلي شمعون بيريس!).
وليس بجديد القول إنّ هذه التذكرة تعيد التشديد على سلسة حقائق تخصّ ملفات حقوق الإنسان الكونية من جهة، والإعلان العالمي الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في مثل هذه الأيام قبل 59 سنة من جهة ثانية. وتلك الحقائق تذهب أبعد من مناخات الاحتفاء على طريقة هراوة الإستبداد الأسدية أو ممسحة العقود الساركوزية، لأنها إنما تسائل جوهر الإعلان ذاته، وأيّ حقوق يحمي، وما طرائق انتهاكه علانية أو خفاء. هنا بعض تلك الحقائق:
1 ـ القول بأنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة صوّتت عليه بالإجماع ليس دقيقاً تماماً، لأنّ التصويت أسفر عن 48 دولة لصالح الإعلان، وثماني دول ضده. ولو كان عدد الدول النامية (دول العالم الثالث في عبارة أخرى) كما هو عليه اليوم في المنظمة الدولية، فإنّ من الصعب تخيّل تحقيق هذه النسبة في التصويت، وربما من الصعب تخيّل الإعلان ذاته وقد فاز بالتصويت أصلاً.
2 ـ الدول التي صاغت، ثمّ رَعَت وسوّقت وصوّتت على الإعلان، لم تكن سوى تلك القوى الغربية الكبرى الضالعة في سياسات استعمارية هنا وهناك في العالم، والتي كانت تمارس انتهاك حقوق الإنسان (وحقوق الشعوب، في عبارة أدقّ) حتى وهي تنخرط في معمعة النقاشات المحمومة حول هذه الصيغة أو تلك من فقرات الإعلان نفسه. ولعلّ هذا بعض السبب في أنّ المؤتمر التأسيسي لدول عدم الإنحياز (باندونغ 1955) رفض الإعراب عن أيّ دعم سياسي للإعلان، واكتفى رؤساء الدول (وكانوا من الكبار، لمن ينسي: نهرو، عبد الناصر، تيتو، …) بالقول إنهم أخذوا به علماً!
3 ـ الإعلان يسكت تماماً عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها (الأمر الذي يتناقض على نحو صارخ مع الفقرة الأولى التي تقول: “يولد البشر أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق”). أكثر من ذلك، يسوّغ الإعلان مفاهيم الوصاية والإنتداب والهيمنة الإستعمارية، حين يحثّ الدول الأعضاء (المستقلة و/أو الإستعمارية) على احترام حقوق شعوبها مثل حقوق الشعوب والأراضي الواقعة تحت سلطتها القانونية (أي: الدول غير المستقلّة و/أو المستعمَرة).
4 ـ الإعلان يحدّد مفهوم حقوق الإنسان انطلاقاً من شخصية الإنسان الغربي وحده، من قِيَمه وثقافته وأعرافه وفلسفاته، من حضارته التي كانت هي التي انتصرت (على نفسها!) بعد الحرب العالمية الثانية، حين انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، ولتأسيس النظام الدولي الجديد… آنذاك، وليس عام 1992 في أعقاب “عاصفة الصحراء”، أو 2001 بعد انهيار برجَي التجارة في 11/9، أو 2003 بعد غزو أفغانستان والعراق. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان وليد تلك البرهة الإجماعية الغربية بامتياز، ولم يكن مدهشاً بالتالي أن تكون صورة العالم كما يرسمها الإعلان هي صورة العالم كما رسمتها لتوّها الحضارة الغربية.
5 ـ وهذه، بمعني النقلات الكبرى، حضارة تبدأ من اليونان الإغريقي الكلاسيكي، ثمّ روما الإمبراطورية، وصولاً إلى الكنيسة الكاثوليكية. هنالك أيضاً عصر الأنوار، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية، الآلة البخارية، الثورة الصناعية، الحداثة، ما بعد الحداثة، العولمة. هنالك، بين حين وآخر، فلسفات كانط أو ديكارت أو نيتشه أو هيغل أو ماركس. هنالك، أيضاً، الحروب الصليبية، اكتشاف أمريكا، محاكم التفتيش، الفتوحات الكولونيالية، الإمبريالية، الفاشية، والنازية… وفي صياغة الإعلان، وبعد الإتكاء المباشر على صورة العالم هذه، جرت الإحالة إلى تراث غربي طويل في صياغة العلاقة الحقوقية بين الحاكم والمحكوم: العريضة الإنكليزية 1627، إعلان الإستقلال الأمريكي 1776، دستور الولايات المتحدة 1787، قانون الحقوق الأمريكي 1791، الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن 1789.
ذلك هو جوهر السبب في أن تسييس إعلان 10/12/1948 (أي وضعه بتصرّف أجهزة تسعى إلى أغراض سياسية واقتصادية وثقافية، قبل الأغراض الحقوقية) هو الذي يجعل المشهد منقسماً إلى عالمَين: الراصد لانتهاكات حقوق الإنسان (الغرب إجمالاً)، والمرصود المتهَم بانتهاك تلك الحقوق (العالم خارج الغرب إجمالاً)، على نحو يذكّر بثنائيات عريقة مثل المستعمِر والمستعمَر، المتمدّن والهمجي، الأبيض والأسود، الغرب والشرق…
ولم يكن غريباً، تأسيساً على جماع هذا المنطق، أن يرفع الغرب رايات حقوق الإنسان في ذروة دعمه ومساندته، بل وأحياناً قتاله إلى جانب، أعتى الأنظمة الإستبدادية في العالم الثالث عموماً وبلدان الشرق الأوسط ومنابع الثروات النفطية خصوصاً. هذه الإزدواجية ليست فاقعة إلا في الحساب الأخلاقي، أو في صحوات الضمير النادرة الزائفة غالباً، ولكنها ليست مكروهة أو بغيضة أو حتى نافرة حين يتعلق الأمر بالحسابات الجيو ـ سياسية والإقتصادية، حسابات المصالح الحيوية، والربح والخسارة.
وبهذا المعنى، في صدد إحالة حقوق الإنسان إلى المزبلة لصالح أجندات أخرى، لعلّ الفارق جغرافي فحسب بين نظام بشار الأسد وإدارة نيكولا ساركوزي.
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- باريس