ثمة سؤال يُطرح على كل معنيّ بمسألة “الدولة” في العالم العربي، وقوامه: ما هي أسباب عدم قيام “دولة” في بلده؟ انه سؤال معهود، وازدهاره أشاع مقولة “العوائق الحائلة دون قيام الدولة”. شيوع لا يقتصر على “الدولة”، بل يمتدّ الى المسائل المتعلقة بالمجال العام، من قبيل: “عوائق أمام التنمية”، أو”المرأة” أو “الديمقراطية” الخ. هذا التمرين الطويل على تعداد “العوائق” راكم تسليما ضمنيا، ربما غير مقصود، بأن هذه العوائق طالما ظلّت قائمة، فلن تقوم دولة، ولا ديمقراطية، ولا تنمية…الخ. فهذه “العوائق” بنيوية، عريقة، ضاربة في جذور الثقافة وموروثها.
ما هي اذن هذه “العوائق”؟
قوة العصبيات السابقة لبناء الدولة، وحيويتها، ونفاذها الى قلب الثقافة وقدرتها على التعبئة، النخبوية والجماهيرية على حدّ سواء. وهي عصبيات تتمثّل في الانقسامات المناطقية، الطائفية، القَبَلية والعائلية. والأكثر ديناميكية من بين العصبيات راهناً: المذهبية (السنية ـ الشيعية)، وليدة الانقسامات السابقة، والمتفرّعة منها عصبيات معقّدة، تتقاطع فيها المذهبية مع المناطقية مع القبلية… تحتاج الى علم الانثروبولوجيا لتفكيك كل عقدة من عقدها وإعادة رسم الخطوط الدقيقة لديناميكياتها وتياراتها.
طغيان التصوّر الديني الفوضوي على بناء الدولة لدى المفكّرين بها، أو المعارضين لها، أو المتطلّعين الى تسلّمها؛ بالاضافة الى تفوّق الثنائي “الحلال ـ الحرام” على الثنائي “قانوني ـ غير قانوني” في أوساط “المواطنين”. والأول إلهي، غيبي، يُفترض انه لايتغير، فيما الثاني قائم على القانون الوضعي، الملازم لقيام الدولة، وهو قانون وضعه البشر، يُفترض انه يتغير بارادتهم. والمتفرع عن هذا الطغيان، المزايدة الدينية التي يمارسها القابضون على زمام الدولة، أي أصحاب السلطة. أما تجلّيات هذه المزايد فقائمة في الخطاب كما في القانون أو الدستور أو الاعلام.
الفساد، المحسوبية، التسلّط، الاستبداد، المحابات العائلية، التوريث في “الجمهوريات”، الانفلاش النرجسي؛ وهي صفات صريحة للقابضين على زمام الدولة.
ثنائية الدولة أو المقاومة، والتي تحتل حيّزاً هاماً من السجال السياسي الراهن: هل نبني دولة أم نقاتل أميركا واسرائيل؟ ما يفقد الدولة مشروعية بنائها وأولويتها على ما عداها من المسائل، ويحرم الفكر السياسي العربي من تطوير نظرياته ومفاهيمه الخاصَتين بالدولة.
وخلاصة هذه “الاسباب” هو افتقادنا الى ثقافة الدولة ومفاهيمها، وعلى رأسها مفهوم “المواطنة”، “المواطن”.
طبعا هناك حيثية منطقية للأخذ بهذه “الاسباب”: العصبيات كيانات سبقت الدولة كما أسلفنا. وديناميكة قيام الدولة ذات منحى إندماجي وتطلّع مشترك. فيما العصبيات صاحبة ديناميكة انقسامية انشطارية. تبزغ من أجل اطار عصبي بعينه، وتنتعش بانقسام هذا الاطار الى فروع لا تنتهي. وهي انقسامات تستمد عواطفها ومفاهيمها ونزاعاتها وقصصها من التاريخ، وتبني هويات متذرّرة ضيقة تفرّق ولا تجمع، وتبني مصالحها على أساسها. وتكون هذه “المصالح” الخصم الاساسي لمنطق الدولة. اذ يُفترض بالراغبين ببنائها ان تكون لهم مصلحة بها، أن يتطلّعوا نحو المستقبل، نحو هدف واحد تبنى على أساسه هويتهم. ثم ان المدّ الديني، وما يلازمه من مزايدة دينية للسلطة القائمة، يخلق البلْبلة ولا يسمح بمناقشة معنى الدولة الدينية، ومعنى اختلافها عن الدولة الحديثة، ولا ببلورة طاقاتها. انه غموض فوضوي لا يخدم الا بقاء الحال على ما هو، أو بالأحرى الى تراجعه. أيضا الفساد والمحسوبية والمحاباة العائلية والنرجسية… كلها ليست صفات رجال دولة، بل رجال سلطة. وبقية “الاسباب” على المنوال نفسه…
ولو أُخذتَ هذه “العوائق” كمشهد، مجرّد مشهد بَصَري، فسوف تلاحظ مدى تلاحمها مع غياب الدولة: اذ تبدو مثل عرَبة يجرّها أحصنة عصبيون الى الخلف، فضّا للاشتباك الحاصل بينهم وبين فكرة الدولة وتجسداتها. دور “العوائق” في هذا المشهد هو تغييب الدولة، أو الابتعاد عنها، أو اضعافها. في هذا المشهد لا تبدو هذه “العوائق” أسبابا، بل جزءا من مشهد، هي فائقة الحيوية فيه، أشدّ حيوية من الدولة، اللاهثة وراءها، بوصفها نتيجة، لا سبباً أو أسبابا. فلا حياة لها من دونها: لا حياة لهذه “الأسباب” من دون نتائجها، لا حياة لهذه “العوائق” من دون غياب الدولة، أو هشاشتها أو هشاشة دعائمها. لماذا؟
لأننا لو قَلَبنا وجهة التفكير وقلنا بفرضية ان غياب الدولة نفسها هو الذي عزّز العصبيات والتلسط وفساد الخ، أي ان لا عوائق بعينها مطلقة تعزف منفردة، بل دولة، أو فكرة دولة غائبة أعطت الحياة لعوائقها… لو قلبنا اذن وجهة التفكير، فسوف نحصل على اجابة مختلفة أو سؤال مختلف: فاذا كانت لدينا دولة، هل كانت العصبيات سوف تحيا، باقية على هذه الدرجة من القوة؟ لو كانت لدينا دولة، هل كنا سنناقش أولوياتنا الوطنية، بين بنائها ومقاتلة الصهيونية والامبريالية؟ هل كان حكامنا سيزايدون على ديننا؟ أم سيكونون قد انتخبوا شرعيا واصبحوا أقوياء، ولا حاجة لهم لغير شرعية الانتخابات التي جاءت بهم… دولة قوية لا دولة شرسة. ويبدو السؤال أكثر بديهية عندما تطرحه على الفساد والتسلّط والاستبداد والتوريث… بصفتهم “أسبابا” لعدم بناء دولة: لو ان هناك دولة، هل ستكون هناك “سلطات” على هذه الدرجة من الفساد والتسلط والاستبداد…؟
مقولة “الاسباب” ذات النغمة العوائقية لها عيب ذهني آخر: فالمتكلمون بالأسباب يقدّمون، من غير أن يقصدوا ربما، تصورا للـ”دولة” وكأنها شبح… كأنها كيان غامض آخر، فوضوي أيضا. والحال ان الدولة موجودة. انها الحدود والجنسية والادارات والقوانين الخ. انها دول، ولكنها مصابة بكل ما اصاب بنى الحداثة العربية من انحطاط وتجوّف والتواء. هذه الدولة الناقصة تبدو في خطاب “الاسباب” وكأنها قلعة جامدة من الغموض.
لكن الأهم من كل ذلك ان هذا الخطاب العوائقي ينطوي على تصوّر غريب، هو ان “العوائق” انما هي عبارة عن حواجز ينبغي الغاؤها بغية بناء الدولة. فيما هذه “الاسباب” في الواقع هي ديناميكيات فاعلة ومتفاعلة، ولا دولة من دونها. وتاريخ بناء الدولة مرتبط ليس بإبادة “العوائق”، بل بتطورها من داخلها في صيرورة تدريجية بطيئة وتراكمية، لا تخلو من العيوب. هذه الحواجز التي يضعها الخطاب العوائقي أمام بناء الدولة يشبه، باصراره وفحواه، شعارا يرفعه محبو الديمقراطية، قائلين انها، أي الديمقراطية، “هي الحل”. “الديمقراطية هي الحل”: وكأن الديمقراطية مطلب، هدف نهائي يجب بلوغه وليس ديناميكية جامعة يتفاعل في مسارها كل المعنيين بها، سلبا أو ايجابا، عملية متعرّجة، معقّدة، خطرة… تماما كما هي عملية بناء الدولة.
الخطاب العوائقي الذي لا يرى الترابط بين الاسباب والنتائج منتشر ومكرر. وربما لا مغالاة في القول بأنه أنتج ثقافة جاهزة، ردة فعل عفوية، على كل سؤال عن الدولة، كما على أي سؤال عن أي من بنى الحداثة. فلا يلتقي مهْمومان ببناء الدولة الا و”العوائق” بينهما. بحيث يمكنك الافتراض بأن خطاب “العوائق” هو بند اضافي على لائحة أسباب غياب بناء الدولة. فرضية تحمل طبعا مفارَقة، وتمدّها الفوضى المفهومية بالحياة الطويلة.
الآن، الدولة ليست اختراعا حديثاً. الدول وُجدت في التاريخ البعيد، منذ اجتماع الانسان بغيره. كانت هناك دول امبرطورية، أوتوكراتية، فرعونية، ثيوقراطية، استبدادية، وراثية. الحداثة الغربية غيرت نقطة واحدة جوهرية في مفهوم الدولة القديم: أدخلت اليه مفهوم دولة القانون والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة. وعندما نتكلم الآن عن دولة، لا بد من الأخذ بالمفهوم الغربي للدولة، فهي جزء من تاريخنا القريب والمعاصر، ورثناها على طريقتنا، ولا يمكن التبرّؤ منها، جتى لو كانت دولة “ملالي”؛ مثل “جمهورية ايران الاسلامية”، التي تتبنّى أنظمة الغرب الحديث وقوانينه ومؤسساته.
ومفهوم الدولة هذا مرتبط بالحداثة، بأوجهها ومجالاتها الأخرى. والحداثة الآن معرّضة للنقد في عقر دارها، واخفقاتها لا تعدّ. مما يعطي حجة لأعداء الدولة، اسلاميين خصوصا، بالانقضاض على هذه الدولة أو تلك التي جاءت من الغرب “المفكّك… المنحل… الفاشل…”. لكن بصرف نظر عن التصيّد الاسلامي في ماء الغرب العكر، تضيف نواقص الحداثة الى المهام الفكرية المتعلقة بالدولة، مهمة اضافية. فلو أردنا التفكير بالدولة بتنا بحاجة للأخذ بحداثتين: الحداثة “المنتصرة”، من جهة، الماضية الكولونيالية والاستقلالية، في أيام تفاؤلها وثقتها بالتقدم؛ والحداثة التي تنتقد نفسها، من جهة أخرى، الراهنة، المدْركة لقصورها ولحاجتها الى تطوير نفسها وتجاوزها. هذا الوصف مركَّب، تتلازم بداخله زاويا الحداثتَين: “المنتصرة” و”الناقدة نفسها” في آن. نحن بحاجة الى هذا الوصف من هاتين الزاويتين، حاجتنا الى تحليل ديناميكي لمسألة الدولة، هو المدخل الى عملية “تبييء” نظرية بناء الدولة ومفاهيمها. كي لا تهبط علينا الدولة كما تهبط الآن الظواهر الما بعد حداثية، كالجسور الفاصلة بين رصيفين، وكذلك الجادات والسيارت وناطحات السحاب والمولات والسوبر ماركت والفضائيات والانترنت والخلوي…
أكثر ما يحتاج اليه بناء الدولة، هو الوقت. ونحن في عصر يعزّ فيه الوقت على العالم كله. وفي حالتنا العربية بالتحديد، يعوزنا وقتان: الضائع من وقتنا المهدور، ووقت العالم المتسارع، الذي لا تستطيع أية قوة في الدنيا إبطاءه أو إيقافه. أين نجدهما، هذان الوقتان؟ من أين يمكن استقطاعهما؟
() السطور أعلاه قُدمت الى ندوة “الدولة العربية: إشكاليات وآفاق” نظمتها جامعة قطر في 16 و17 أيار الجاري.
المستقبل