«رابطة العقلانيين العرب» عقدت «مؤتمرها الأول» في باريس أواخر الشهر الماضي، فكان لقاء بين عقول متفاهمة متضامنة سلفاً. لذلك ربما لم يكن مطلوبا من المدعوين أوراقاً معدّة بهدؤ؛ ولا من المنظّمين «خلفيات» مصاغة بمنهجية أو نظام. ماذا نناقش اذاً؟ أسال قبل المؤتمر. هناك عناوين جلسات. هذه لا تقول شيئاً. ولكن الفضول يغلب…
«عناوين الجلسات» هذه لم تكن مطابقة لواقعها المفترض. واليومان ونصف اليوم التي أمضيناها كـ»مؤتمرِين» كانت عبارة عن تداعٍ غير منظم للافكار والهواجس. ما من خيط منظم لها؛ اللهم الا الايمان بالعقلانية. ولا حتى محاضرة تكون إطارا للنقاش او التعقيب او النقد…
فقط، في الجلسة الاخيرة، قفز «بيان تأسيسي» صادر عن الرابطة، وتحته عنوان مصغّر «من اجل ثقافة نقدية علمانية». البيان قُرىء على عجل، و»نوقش» على أعجل. لم يشفع للمؤتمر مشاركة اساطين الفكر النقدي العقلاني امثال عزيز العظمة وصادق جلال العظم والعفيف الاخضر وجورج طرابيشي. لم يعمل تواجدهم على الباس المؤتمر الجدّة أو الابتكار او مجرد قليل من الصحو في غيوم الافكار.
اثناء الجلسات كلها كان الكلام يتطاير في الهواء. التداعي نفسه للأفكار، التداعي نفسه للاجابات. والاساطين بدت وظيفتهم اضفاء هيبة فكرية و»تنظيمية» على الانفار من الاعضاء. سألتُ احدهم، اذ شعرتُ بسؤ تفاهم، وبغربة ايضا: «ولكن… لماذا دعيتُ الى هذا المؤتمر؟». فأجاب: «كتاباتك عن الاسلامية السياسية»…
ومبعث الغربة ان المناخ الذي بثه المؤتمر لا يعود الى فوضاه وتشوّشه فحسب. بل ايضا الى «الايمانية العقلانية». وهي مصدر التشدّد بامتياز. كانت هناك ثلاث نقاط اساسية، هي االتي كوّنت هذا المناخ. جرت محاولات لمناقشتها اثناء جلسات المؤتمر. والتجاوب القليل معها كان سريعا او مغمْغماً. والبيان «التأسيسي» للرابطة اكد على هذه النقاط. واذا قرأتَه جيدا وقرأتَ معه محاضر الجلسات، فسوف تجد تناغما بينها، حول النقاط الثلاث تحديداً. ويمكن تلخيصها بالتالي:
اولا، من الصعب على أي كان أن يسمي نفسه «العقلاني» دون الباقين، خاصة اذا كان مجال «عقلانيته» هو المجال العام، أي يخص جميع الناس. فصفة «العقلاني» المنسوبة الى النفس تنطوي على نفيَين: نفي العقل عن غيرك. ونفي تبيّن الحقيقة في «عقل» غيرك. اذ تنفي عنه العقل، تضفي على نفسك اوتوماتيكيا لقب المحتكر الحصري للحقيقة. وهذه صفة تجدها لدى اشد خصوم «العقلانيين»: الاسلاميين الذين لا ينطقون بغير الحقيقة الابدية. لدى السؤال عن اسم الرابطة، «العقلانيين» خصوصاً، ومحاولة مناقشته، تأتي الاجابة من الاساطين بان الاسم لا نستطيع تغييره. لكن أحدهم من «جماهير» المؤتمر اقترح تسمية «الرابطة العلمانية». فكان الجواب لا ايضا… اما في الكواليس، فالعلمانية سيئة السمعة وإن كان يقال لك «انت مؤمن ام علماني؟» أو «انت مع شرع الله او مع شرع الانسان؟» الخ… وهذا ما يعني ربما: الخشية من فقدان قاعدة قُرّاء تتآكل بفعل النمو الفطري للتشدّد الديني… إذاً كأنك بصدد تأسيس حزب سياسي لا رابطة ثقافية فكرية ذات منحى فلسفي.
النقطة الثانية مرتبطة بالاولى. ولها علاقة برؤية الرابطة العقلانية للتطرف الاصولي وبعدم رؤية اي شيء آخر غيره. ايضا في الجلسات كان هناك تساؤل ملح عن السبب الذي يجعل الرابطة منكبّة النظر على الاصولية الدينية فحسب. التلميحات كانت هي الاجابات: ان «من الضروري فصل الاستبداد الديني عن الاستبداد السياسي». او من اننا «زهقنا من نقد الانظمة العربية»؛ زهق من «النقد»؟ ام من الهجاء الفارغ؟ ام من الاغراق المتعمّد في العموميات؟ ام من توظيف الكليشيهات المكرّرة خدمة لنفس الاستبداد والتسلّط اللذين نتوق الى الانعتاق منهما.
لكن أهم ما في المناخ الذي نقله البيان «التأسيسي» هو اختيار حزيران 1967 مجرد محطة مجردة: كأن قبلها شيء، وبعدها شيء آخر: الصعود الاصولي وحده الفاعل فيها. كان نائما او غافيا، فصعدَ، هكذا… لا مكونات من فوفه او تحته او على جنباته؛ فتتبخّر بذلك السلطات الحاكمة، ويمّحي دورها في مرافقة هذا الصعود الاسلامي، في قمعه وتنميته، في التفاعل معه الى حد التشابه… في الاسلمة عن طريق المزايدة، التي قد تكون وراء استمرارية العهود الماقبل حزيرانية نفسها في مواقع القرار…الخ. كل ما لاحظه الكتّاب هو «التراجع المتصاعد لدور المثقف النقدي». تلك كانت الخسارة الجديرة بالتسجيل نتيجة الصعود الديني. خيط النرجسية العقيم، وحده هو الواضح في هذا «الفكر».
والبيان يؤكد ويشدد على الصفة «العقلانية». فالحاصل بنظره الآن ان «اللاعقلانية معمّمة». والمنتَظر ظهور الفرسان العقلانيين الذين «يفسرون الخراب العربي بادوات عقلانية» ويعيدون الاعتبار الى «الثقافة النقدية»، بحيث نبلغ مجتمعا «منعتقاً من العموميات الايديولوجية اللاعقلانية». والمفاد ان العقلانيين العرب حدّدوا العلة («التطرف الديني»)، واوجدوا وسيلة العلاج): «العقل». اي عقل؟ تحب ان تسأل. العقل السالف النهضوي، الاوروبي اساسا ومن ثم العربي.
ببعض العناء الفكري استطاع البيان ان يصيغ ما تمثله «العقلانية» التي تقول بها رابطته. انها «مطلب مركزي من مطالب الحداثة التي تقوم (…) على العلمانية والمجتمع المدني ودولة القانون وحقوق المواطنة». «مطالب»؟ و»عقلانية»؟ كيف تكون للعقلانية مطالب؟ واية مطالب؟ مطالب السواد الاعظم من الذين تتميز عنهم؟ أم مطالبها الخاصة بصفتها صاحبة العقل؟
النقطة الاخيرة. تتعلق بالعلمانية. ساد في الجلسات ايضا «جو» عام، قوامه ان «العلمانية هي الحل»، بعد وضع «العقلانية» في المرتبة الرمزية الدلالية التي تستحقها في هكذا حالة.
قيل بأن العلمانية قد لا تكون بالضرورة ديموقراطية هي ايضا بدورها. انظر مثلا الى البعث والجيش التركي والسوفيات… «مستحيل!» يكون الجواب؛ كل هذه انما ليست «علمانية حقيقية». على غرار «هذا ليس اسلاما حقيقيا!»، او «هذه ليست اشتراكية حقيقية!». والعقلاني العلماني يكاد يقول، مكرّرا لازمات اصحاب الحلول الجاهزة والقوية من اسلاميين خصوصا: ان «العلمانية الحقيقية» سوف تأتي على يديه. والبيان «التأسيسي» لم يقلّ ربطا تلقائيا بين العلمانية والديموقراطية. اذ يعتبر العلمانية «سيرورة اجتماعية متصاعدة غايتها فرد مستقل قادر على التفكير ومجتمع ديموقراطي».
ان فصل الدين عن الدولة، اي العلمانية، قاعدة من قواعد الديموقراطية. واذا ما اقترنت بالاستبداد والشوفينية تتهدّم هذه القاعدة. وقد لا تكون سيرورتها على نفس الخط البياني الذي رسمته لها الاقدار الاوروبية الأولى…. فمهلا يا اخوان. العقل يفترض، ايضا، بان الترسيمات التجريدية التي «ينقلها» عن الواقع قد تكون مجرد كاريكاتور عنه. وليس قراءة دقيقة مركّبة له… قراءة مربكة جدا.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة
مواضيع ذات صلة:
بيان رابطة العقلانيين العرب