مرت ثلاث سنوات على واقعة 14 آذار في لبنان. سنوات ثلاث تراكمت خلالها وقائع لا حصر لها من الانحرافات والسقطات، وعلى رغم كل ذلك أجدني اليوم اقرب إلى 14 آذار (الخيار السياسي، وليس التاريخ). الأسباب كثيرة وربما كان أوجهها حقيقة أن حياد المرء في أزمات تعصف ببلده يبقى أمراً غير مجد، ولا قيمة له. الانحياز ضروري على رغم السقطات الكبرى، والحيرة التي يبعثها الأداء المتعثر وأحياناً المريب لقوى أساسية في 14 آذار.
في البداية نبدأ من الخيارين الإقليميين لكلتي الجماعتين اللبنانيتين، اذ يجد المرء نفسه اكثر تخففاً من حسابات 14 آذار الإقليمية في حال انحيازه لها. مصر والسعودية والأردن لا تشعرك انك حيال تصور خاص بها في ما يتعلق بالأزمة اللبنانية. لنتأمل مثلاً في الطموحات اللبنانية لهذه الدول، وهي لا شك تملك طموحات في بلدنا، لكنها طموحات لا تلمس جوهر الوظيفة اللبنانية كما يشتهيها مشارك في حدث 14 آذار عام 2005 حتى لو كان عونياً انشق عن 14 آذار الحركة والجماعة. فالحضور العربي (عرب 14 آذار) في المعادلة اللبنانية يبقى خارجياً (برانياً) ولا يمكن العين المجردة ان تلتقطه، واللبناني الذي يمضي أيامه في العمل والإجازة والصلاة والسهر والتعلم والسباحة لا يصطدم بسيارة أو مبنى أو طائرة مدنية تنبئه بنفوذ عربي في بلده. لا تصطدم طموحات هذه الدول بالحد الأدنى لخياراتنا الحياتية والسياسية. والناشط العوني مثلاً لن تعوق مساعيه المعلنة وغير المعلنة أنشطة سفارة من سفارات هذه الدول.
في مقابل ذلك يبدو خيار 8 آذار الإقليمي خشناً في لبنان. فللسوريين والإيرانيين خيارات تمس عيش اللبنانيين اليومي وتحدد لهم صباحاتهم ومساءاتهم. السوريون سبق لنا ان اختبرنا معنى نفوذهم في لبنان، والقول ان انضمام ميشال عون إلى خيارهم اللبناني أفضى الى تلطيف هذا الخيار ليس إلا اعتداء على ذكاء حلفائهم قبل خصومهم. أما الإيرانيون، فإضافة إلى وعود الرئيس احمدي نجاد اليومية باجتثاث الدول وإحراق الأقاليم، فقد سبق ان عنى لهم الدخول الى معادلة الشرق الأوسط إرسالهم الحرس الثوري الإيراني إلى بلدنا وقيامه بتأسيس دولة فيها اضخم من دولتنا وأكثر قدرة على الاستمرار.
بداهة هذه المقارنة لا تنفي صحتها، بل ربما استمدت من هذه البداهة قوتها، خصوصاً إذا كان مجريها مشاركاً عادياً في حدث 14 آذار 2005. ونقول مشاركاً عادياً أي من خارج الاستقطابات الكبرى في هذه الحركة، وهو كانت أصابته خلال السنوات الثلاث التي تفصلنا عن ذلك الحدث انتكاسات وخيبات كان من المفترض ان تنقله إلى موقع آخر. ولكن أي موقع؟
على المستوى الداخلي ثمة ملمحان عامان وواضحان للانقسام بعيداً من ادعاءات من يمثلهما: الأول تحالف سياسي هش وواسع ومن دون جوهر متين. طوائف وقوى وشخصيات التقت على حد أدنى من التفاهم على صيغة فضفاضة لمعنى الدولة ولموقعها. ما يربط بينها قليل، ولكنه القليل الذي يشكل الحد الأدنى لشروط الشراكة. قوى تشبه لبنان في هشاشة تحالفها، بعضها خائف ومهدد، وبعضها راسخ. تخطئ كثيراً، لكن أخطاءها اقرب الى التخبط بمخاوفها. أقطابها ليسوا ملائكة، لكن شياطينهم لا يزالون حبيسي تواريخهم ومنازلهم.
أما الثاني فتحالف خفي ويستبطن قدراً من الوقائع المريبة. فاللبنانيون يعلمون مثلاً كيف عقد التحالف بين الكتائب وتيار المستقبل وبين الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. قد تكون هذه التحالفات غير مقنعة لكثيرين منهم، لكنهم يفهمون في أي سياق تمت. اما التحالف بين حزب الله والتيار العوني فشابته أسرار كثيرة، وما زالت ظواهره وعوارضه من الأحجية التي تحتاج إلى من يكشفها.
وبغض النظر عن الريبة التي يخلفها تحالف عون وحزب الله، فإن مشروع المعارضة اللبنانية التي يشكل هذا التحالف متنها هو حتى الآن تعطيلي. تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية وتعطيل الوسط التجاري وتعطيل عمل البرلمان. لا شيء معلناً سوى الرغبة في التعطيل. أما غير المعلن، او ما يمكن ان يُستشف فتفوق نتائجه فداحة هذا المعلن «التعطيلي». ما يمكن ان يستشفه اللبناني العادي الذي شارك في حركة 14 آذار 2005 من طموحات حزب الله، رغبة في إبقاء لبنان ساحة، وفي منع قيام دولة قوية تطرح على الحزب تساؤلات تطاول جوهر وظيفته. وما يمكن ان يستشفه هذا اللبناني الضعيف ايضاً من طموحات حزب الله رغبة في الاستقلال بطائفة ومنطقة واقتصاد ومجتمع. أما الطموحات العونية غير المعلنة والتي تقف وراء الجهد التعطيلي، فما ظهر منها حتى الآن هو رغبة عونية في معاقبة اللبنانيين على انعدام فرص وصول الجنرال ميشال عون الى الرئاسة.
بعد كل هذه الوقائع المؤلمة تضعف المناعة حيال سقطات حركة 14 آذار. يصبح انتقادنا جنوح وليد جنبلاط لجرنا الى اعتقاد بأننا في مواجهة «الفرس المجوس» بدل ان نكون في مواجهة النظام في إيران، يصبح هذا الانتقاد من التحفظات التي يمكن تأجيلها. أما اكتشافنا جهل قادة «مثقفين» في 14 آذار بالتاريخ «بدءاً بجماعة الحشاشين» ووصولاً الى التاريخ الشيعي القريب والبعيد، فهو ما يدفعنا الى انتظار انتهائنا مما جرّه التفاهم بين حزب الله والتيار العوني علينا، حتى نبدأ بمحاسبتهم وهجرهم.
أجدني مع 14 آذار بعد ثلاث سنوات عجاف على انطلاقها، لأن الحياد إعدام للنفس وامحاء وموت، ولأن الوقائع ترقص أمامي كشاشة تلفزيون. 8 آذار تحالف قوى لا يخاطب شيئاً من طموحاتي. دفع للوقائع باتجاه لا يمكن العين ان تخطئه. ثم ان 8 آذار غير مقتنعة أصلاً بـ8 آذار، وإلا لِمَ كل هذا الإضمار. فكل الخطوات التي خطتها مضمرة. كيف لي ان اقتنع بالاقتراب خطوة باتجاه تحالف سياسي يرغب في تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية من دون ان يعلمني برغبته هذه. او تحالف سياسي أنا على يقين بأنه ضد المبادرة العربية، لكنه مصر أمامي انه مؤيد لها. علي لكي اقترب من 8 آذار، انا الذي خذلتني 14 آذار مراراً، ان اقبل اولاً برغبة المعارضة في تعطيل كل شيء وثانياً ان أتولى نفي الحقيقة التي قبلتها. وهذا الأمر لطالما أقدمت عليه القلة الراغبة والمقتدرة على النقاش من أنصار المعارضة. فلنستعد مثلاً كم مرة كرر أمامنا قادة وناشطون في المعارضة عدم إيمان هذه الأخيرة في المبادرة العربية، وهم أنفسهم وعلى رغم ذلك لا يتوانون في تصريحاتهم ومقالاتهم عن اتهام 14 آذار في إفشال هذه المبادرة.
قد يجيب صريح من بينهم ان ذلك هو «رياء السياسة» الذي لا بد منه. فإذا كان ذلك صحيحاً، فما هو بديلكم عن المبادرة العربية. قد اقبل به في ظل تصدع قناعاتي بـ14 آذار.
البديل كما أستشفه أنا المواطن الضعيف الذي نزل وحيداً الى 14 آذار عام 2005، ميشال عون رئيساً للجمهورية ولبنان ساحة تصفية حسابات سورية – إيرانية مع أميركا وإسرائيل. يدفعني هذا الاعتقاد الى الهرولة باتجاه 14 آذار كابتاً غضبي على وليد جنبلاط واحتقاري جهل «قادتنا المثقفين»، ومحاولاً السعي الى إقناع من يمكن إقناعهم بأن النظام في إيران ليس صفوياً ولا مجوسياً، وان قادة حزب البعث في سورية ليسوا أحفاد الحشاشين. ويبقى ان ما أكبته ليس اكثر من عوارض ذهنية، في مقابل استشعار خطر داهم يطاول جوهر عيشي.
لطالما فكرت بمغادرة 14 آذار، ولكنني كلما هممت بالمغادرة لاح لي الجنرال ميشال عون والسيد حسن نصر الله متصافحين و»متفاهمين»، فأهرول عائداً الى ما تبقى من ساحة الشهداء.
(نقلاً عن جريدة “الحياة”)
نقاش حول 14 آذار بعد ثلاث سنوات عجافتحية وبعد ، ربما كاتب المقال لم يذق لا محبة الاخوة السوريين (كون من الحب ما قتل) ولامحبة الاميركيين(ايضا” من نفس الفئة بعنفها بالمحبة)!!! انما سنوات 14 آذار العجاف كونها خرجت عن ينبوعها ومصدر حياتها وهي الحركة ال”العونية” والتي يصح فيها هي حركة اللبنانيين الاحرار بالارادة والفكر والمستقلين بالفكر والعمل والحياة من ضمن المجتمع اللبناني المؤلف من عدة اطياف وانواع. فهناك المؤمن بالحياة من مصدر الحياة : 1 – الله و 2 – لا احد 1 – الله : من يعتبره المواطن اللبناني مصدر وحيه من الخير والشر، من الصح والخطاء ، من… قراءة المزيد ..