يكاد يتفق جميع من تناول ويتناول أسباب إنهيار التجربة السوفييتية، وتجارب إنهيار أنظمة مماثلة في بلدان أوربا الشرقية، على أن أحد أسباب الإنهيار يكمن في التغييب الذي تعرض له الرأي العام، وإبعاد الشعب صاحب المصلحة عن المشاركة في عملية بناء المشروع الجديد جراء تصفية المنظومة الأساسية للبناء الديمقراطي والمشاركة الشعبية في تلك البلدان. ويضاف الى كل ذلك تصفية وملاحقة وحل جميع الأحزاب السياسية في تلك البلدان وبضمنها أحزاب عمالية عريقة. إن تجاهل رأي صاحب القضية، أي الشعب، وتجاهل مشاركته في أي مشروع إجتماعي إقتصادي مهما كان متطوراً وتقدمياً في ظاهره لا يؤدي إلاّ الى إنهيار هذا المشروع وفشله. وهذا ما حكمت به الحتمية التاريخية. فلم يأت إنهيار هذه الأنظمة بفعل مؤامرة أو دسيسة داخلية أو خارجية، ولا بفعل خلل في التطبيق، كما يظن البعض، بقدر ما هو خلل في البناء والمشروع نفسه وبضمنه البناء السياسي القائم على معاداة الديمقراطية وتصفية أي مظهر من مظاهرها.
ويبدو أن الدرس المرير ومآل التجربة السوفييتية ما زال غير كاف لإقناع الساعين لبناء مجتمع عادل أو إشتراكي بتلك الأسباب. فهاهم، ممن يدعون أنهم يسعون الى بناء “إشتراكية القرن الحادي والعشرين” هذه الأيام، وأبرزهم “هوغو خافيز” الرئيس الحالي لجمهورية فنزويلا، يكررون نفس خطوات التجربة السابقة الفاشلة ومع سبق الإصرار. إن فنزويلا بلد نامي وما يزال يحتاج الى فترة زمنية كي يخطو خطواته على طريق التنمية وبناء إقتصاد البلاد. ولا يمكن أن تنجح العملية الإقتصادية دون مشاركة كل الفئات الإجتماعية ذات المصلحة في هذا البناء، دون إحتكار أي طرف إجتماعي أو سياسي لهذه المهمة. كما أنه من غير الممكن أن يبنى المجتمع المتطور العادل بدون بناء قاعدة إنتاجية يوزع الوفرة المادية على الجميع ولا يوزع الفقر والفاقة. كما لا يمكن أن يبنى البناء الإشتراكي بدون إرساء كيان سياسي رفيع يحترم الإنسان وكرامته ولا يمس القوانين الديمقراطية والحقوق الديمقراطية. وتبعاً لذلك ينبغي الإقرار ب‘ن عملية بناء مجتمع جديد متطور هي عملية إرتقاء المجتمع من جميع الأوجه إقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً وحقوقياً. فلا يمكن القفز على مراحل عملية الإرتقاء هذه. فتجربة حرق المراحل قد ثبت فشلها والى الأبد، وتخلت عنها غالبية الأحزاب الطامحة لبناء الإشتراكية. وإضافة الى ذلك فهناك عامل موضوعي لا يمكن تجاهله وهو إن جميع البلدان النامية تحتاج الى خبرة وتكنولوجيا البلدان المتقدمة ومساعدتها، ولا يمكن أن نتجاهل العامل الدولي في أية عملية تنمية وبناء إقتصادي وإجتماعي في أي بلد. ولنا في مثل الصين الحالي خير دليل على ذلك. فبدون الدعم الدولي للصين ومدها بكل أسباب التطور التقني والمالي، ما كان للصين أن تنجح هذا النجاح المذهل في بناء إقتصاد هذا البلد الكبير وحجم سكانه الإسطوري.
أما دعاة “إشتراكية القرن الحادي والعشرين” من أمثال هوغو خافيز، فهم لا يتعظوا من حكمة التاريخ ومحك التجربة. لقد تسلم هوغو خافيز السلطة في فنزويلا عبر إنتخابات ديمقراطية وفي ظل قانون يعد واحداً من أكثر الدساتير ديمقراطية في العالم، بعد أن طوى الشعب الفنزويلي صفحة على مسلسل الديكتاتوريات العسكرية الإنقلابية وآثارها المدمرة على البلاد. فقد حصل الرئيس الفنزويلي الحالي على قرابة 60% من أصوات الناخبين ونجح في الإنتخابات وأصبح رئيساً للبلاد لفترة الست سنوات القادمة مرة ثانية، في حين حصل منافسه على قرابة 40% من أصوات الناخبين، بعد أن تم فرز 78% من أصوات الناخبين الفنزولين المشاركين في الإنتخابات. وينص الدستور الفنزويلي على أنه لا يسمح لرئيس الجمهورية أن يرشح نفسه لفترة ثانية متتابعة إلا بعد إنقضاء مدة عشر سنوات على فترة رئاسته الأولى. وبدلا من أن يحترم الرئيس الجديد مواد الدستور، فقد سارع الى القيام بتعديلات دستورية وبقرارات رئاسية دون الرجوع الى الهيئات التشريعية، كي يضمن تربعه الى أبد الآبدين على كرسي رئاسة الجمهورية. فقد ألغى البرلمان وحل محله ما سمي بالجمعية الدستورية التي سيطر عليها أنصاره بعد أن إستغل الرئيس الجديد مقاطعة المعارضة للإنتخابات البرلمانية إحتجاجاً على التعديلات الدستورية. وهكذا تربع أنصاره على الغالبية الساحقة من مقاعد المجلس البالغة 167 مقعداً. هذا المجلس أمّن له نجاح مساعيه في تغيير الدستور وبالإجماع بما يضمن إعادة إنتخابه لرئاسة الجمهورية وبدون حدود. أن هذا الإجراء علاوة على كونه قد شل الدستور الديمقراطي عملياً، فإنه الى جانب ذلك كرس لديكتاتورية هوغو خافيز للمراحل المقبلة التي لا يعرف مداها.
وتجاوز الأمر ذلك الى تغير خطير في بناء القوات المسلحة، حيث أصدر البرلمان قراراً يعطي الصلاحية للرئيس بتشكيل ميليشيات عسكرية، على شاكلة الحرس الثوري في إيران، تقوم بالسيطرة على نواحي البلاد الإدارية التي أعيد تقسيمها كي تتلائم مع السعي لفرض ديكتاتورية الرئيس الجديد المنتخب ديمقراطياً. وبهذا لم يراع الرئيس الجديد القسم في الحفاظ على البناء السياسي الذي إنتخب هو على أساسه.
أما على النطاق الإقتصادي، فكانت أولى خطواته هي القيام بسلسلة من إجراءات التأميم الواسعة لغالبية المرافق الإقتصادية في البلاد، دون النظر إلى عواقب هذه الإجراءات على الوضع الإقتصادي في البلاد وعلى سير عملية التنمية وعلى الصناعة النفطية وصناعة الغاز والبوكسايت التي تحتاج الى مساعدة خارجية لا يمكن بدونها تطوير هذه القطاعات الحيوية التي تمد الاقتصاد الوطني بشريان الحياة، مقلداً بذلك التجارب الفاشلة السابقة والقائمة على بدعة حرق المراحل. وأعلن الرئيس الفنزويلي أنه لا يتراجع عن تحويل دولة فنزويلا الى دولة إشتراكية ولا يستطيع أحد أن يثني فنزويلا عن توجهها الإشتراكي وتقليد التجربة الكوبية!!. إن الجميع يعرف التجربة الكوبية التي لم توفر الحد الأدنى من العيش لمواطنيها ولا البناء السياسي الأكثر ديمقراطية من البلدان المجاورة لها.
إن تدابير الرئيس الفنزويلي الإقتصادية ما كان لها الا أن تؤثر سلباً على الوضع الإقتصادي في البلاد. ففي ولايته الأولى إندلعت حملة إحتجاجات شملت بالدرجة الرئيسية عمال النفط والغاز, وقام عمال النفط بغلق أنابيب النفط ومنع تصديره في نيسان عام 2002. وأعقب ذلك تظاهرات عمت المدن في البلاد مما أدى الى وقوع 12 قتيلاً من العمال. وفي ديسمبر عام 2003، إندلع إضراب عام دعت إليه النقابات العمالية مما أدى الى شلل تام في الصناعة النفطية دام تسعة أسابيع. وتطورت الإحتجاجات الى حد تنظيم عريضة إحتجاج وقع عليها أكثر من 3,2 مليون شخصاً مطالبين بإجراء إستفتاء على شرعية بقاء هوغو خافيز على كرسي الرئاسة. وأضطر الرئيس الى القبول بإجراء إستفتاء وحصل على نسبة 58% من الأصوات وفي ظل موجة من الإعتراضات على تزوير الإستفتاء.
ولم يجد الرئيس الفنزويلي أنصار وحلفاء له على النطاق العالمي الا عند الأنظمة الديكتاتورية وخاصة في بلدان الشرق الأوسط. ففي عام 2001 زار صدام حسين في بغداد وبعد غزو العراق للكويت وبعد الحملات الدموية لصدام حسين ضد الشعب العراقي أثناء قمع إنتفاضة آذار عام 1991. وتردد مرات أخرى الى الشرق الأوسط ليقوم بزيارة النظام الإيراني المتطرف الغارق بدماء أنصار الإشتراكية في إيران، وزيارة أنظمة إستبدادية أخرى في المنطقة.
إن نظاماً بمثل هذه المواصفات لا يمكنه أن يشيد نظاماً متطوراً من الناحية الإجتماعية والإقتصادية ولا بناء سياسي يضمن الحقوق المشروعة للبشر. فمثل هذه الأنظمة المتطورة على كل التشكيلات الإجتماعية السابقة تحتاج الى مقومات لا يتمتع بها الرئيس الفنزويلي الذي يعلن “إشتراكية القرن الحادي والعشرين”، والتي سيكون مصيرها الفشل أيضاً. إنه مسعى للأسف يندرج ضمن مساعي الإساءة الى حلم البشر في بناء مجتمع عادل مزدهر خال من إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
adelmhaba@yahoo.co.uk
*
* كاتب عراقي