تسنى لي بعيد مغادرتي سورية منذ أشهر نصيحة ثمينة من شيخ المناضلين رياض الترك أظن فيها مفاتيح من حكمة وبعد نظر الكثير: (لا تكتب وأنت خارج سورية ما لم تستطع كتابته وأنت داخلها.. حافظ على توازنك دائما).
لا أسوق الآن تلك النصيحة منطلقا من ثقافة أبوية أزعم تحرري منها أو.. ربما تتلبس بعضا من لاوعيي. ليس هنا الموضوع كما يبادر بعض أصحاب التهم المسبقة الصنع، إنما التدقيق مليا في تلك النصيحة بعد طوفان سيل “الشعور” والغرائز في كثير من المقالات التي تنسب نفسها في خانة الكتابات المعارضة للنظام السوري.
بالتأكيد مصدر النصيحة هنا مهم وقائلها منسجم جدا مع نفسه فيما يخص نقده أو “تهجمه” على النظام السوري، فالرجل لا يقول خارج سوريا أكثر مما يقوله داخلها واعتبر وربما يشاطرني الرأي كثر كل ما قاله يندرج تحت كسر حاجز الخوف، حتى بات رياض الترك الناقل للمعارضة السورية من سقف الى سقف الى اخر ودائما الانتقال من الواطئ الى الأكثر ارتفاعا الى الأكثر وهكذا حتى قيل فيه: “لا يوجد فوق رأسه الا السماء “. كذلك، ” سقفه أعلى من كل سقوف المعارضة السورية”.
ربما لا يستمد رياض الترك شهرته والأسطرة التي نسجت حوله من افتراقه الشهير مع حزبه عن الفاتيكان الكنسي السوفياتي ولا من موضوعات الخلاف الشهيره مع الحزب الشيوعي الأم وقائده الشهير خالد بكداش مع أهمية نلك الموضوعات وذلك الافتراق الفكري والسياسي، إنما جاءت من صموده الأسطوري في زنزانته الانفرادية لما يقارب العقد والنصف وخروجه فيما بعد ومقارعته للاستبداد أيمّا مقارعة والمحطات الدالة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى فعلى سبيل المثال، جملة واحدة على فضائية الجزيرة “مات الديكتاتور” كلفته عودة أخرى الى السجن ومبادرته التي أطلقها وطالب فيها بتنحي بشار الأسد عن السلطة أثناء “تقرير ميليس” أجفلت المعارضة قبل النظام والكل بدأ يحاول التنصل منها، وهنا دور رياض الترك في كسر حاجز الخوف والانتقال بالمعارضة السورية من سقف الى أخر أعلى.
بالعودة الى تلك النصيحة ومناقشتها ومدى الالتزام بها وهل هي صحيحة أم خاطئة أم البحث بين الحدين عن طريق ثالث وما هو السقف الموجود أصلا داخل سوريا لكي لا” نتعنتر ” خارجها كما ربما يحتج كثير من كتاب المعارضة من ذوي السقوف العالية والعالية جدا؟؟
برأي كثيرين: لاوجود للون الواحد إلا في إسار ذهنية منغلقة متصلبة آيلة بواقع تصلبها الى تشقق ثم الاندثار. بناء عليه، طبيعي جدا وجود لغات كثيرة في أدبيات المعارضة السورية ان كانت أحزابا أم مقالات لكتاب من مشاربَ مختلفةٍ. هذا التنوع يشكل اللوحة الكاملة ونجد فيها تدرج لوني من صقيعي باهت وأسود متشائم الى بين بين، وصولا الى ألوان رغبوية تتشابك مع واقعية فجة.
قراء تلك المقالات لا يبعدون كثيرا عن التشابك اللوني السابق واستعراض العدادات الرقمية في المواقع الالكترونية التي تقدم تلك الخدمة تعطينا وان بشكل تقريبي مزاجا عاما لما يقبل عليه القارئ السوري المهتم بنشر أدبيات وكتابات المعارضة السورية أو التي تدور في هذا المضمار.
في ملاحظات سريعة لا تندرج في عداد الدراسات الاحصائية الموثقة، نلاحظ أن المقالات التحريضية التي تسب وتهاجم النظام السوري وتنعته بأقدح وأذم النعوت، ارتفاع عدد قراءها، ولها الغلبة على غيرها من مقالات التحليل والتنظير واللغة التحليلية الهادئة، التي تحاول استشراف المستقبل ورسم رؤية عقلانية تحاول ولوج السياسة بما هي اعقال للعقل بعيدا عن افراغ المكبوت، فقط، لإفراغه، دون إعمال النظر، كيف تفادي شظاياه وكيفية محاصرة ضرره، بما ينطوي ذلك على ادراك أن السياسة تفعل فعلها هنا.
بين أولئك (العاشقين) لرياض الترك كم هي نسبة التزامهم بنصيحته وما هو مقدار التفكير لديهم: كيفية المحافظة على توازنهم؟
سؤال نضعه برسمهم.
أما لماذا (شعبية) مقالات التحريض وطغيان اللغة الغاضبة والمنفلتة؟ فربما يجد جوابه في طغيان الاستبداد والمسدّ الذي أوصل الجميع إليه بما هو فعل ممنهج سائر بعناد نحو تحقيق أهدافه وأولاها: الإذهاب بالعقل، أي بالسياسة إلى اللاسياسة. أليس هذا ما نقصده عندما نردد دائما (نزع السياسة عن المجتمع)؟
ينجح النظام عندما يجعلنا نقارب تصحرنا بانفلات غرائزنا وننجح حيث يفشل هو عندما نرسم خارطة طريق واضحة المعالم، هدفها الأول حماية متحدنا الوطني، مهما تمادى النظام وأمعن في تمزيقه.
ahmadtayar90@hotmail.com
* كاتب سوري- الرقّة