مثلت كتابات وابحاث الراحل الفقيد د. نصر حامد ابو زيد مرحلة بنائية جديدة داخل العقل المسلم. فمنذ وفاة عميد الادب العربي د. طه حسين تعرض كثيرون للفكر الاسلامي باستخدام مناهج كثيرة ترصد وتحلل وتعيد النظر من خارج النص لكن الاضافة النوعية الجديدة كانت من داخل النص وهو ما فعله الفقيد د. ابو زيد. وكانت تلك هي اللطمة الكبري للاصولية والسلفية وكهنة النصوص. فهناك من أتي من خارج مؤسسة الكهانة ليقول كلمته من داخل النص بل ليضيف ما عجزت عنه كل العقول الحافظة والمردد لنصوص القرآن. طه حسين كان ازهريا ومع ذلك تعرض لمحكمة تفتيش لقوله ما لم يخطر علي عقل كاهن اسلامي بتعريض المؤسسة كلها الي اضواء منهج الشك. اما ابو زيد فكان اكثر ايلاما لهم لعجزهم عن الامساك بما يدينه. كان طه حسين بحكم مكانته السياسية عضوا في حزب برجوازي لطبقة اجتماعية تترفع في ثقافتها عن ثقافة رجل الشارع. اما نصر فكان ضمن الشارع المصري بثقافة الطبقات الاجتماعية المصرية التي قضت عمرها التاريخي بحثا عن الانعتاق بدون ادني فائدة لارتباط الدين دائما بثقافة الشعب. وهنا تحددت الشخصية الثقافية ومن اي موقع وباي منهج تقاوم الظلم الارضي والسماوي علي السواء لهذين العملاقين حسين وابوزيد.
من داخل النص وباستخدام فلسفة اللغة وبنيتها ودلالتها اتي اهم عمل بحثي للفقيد تحت عنوان ” مفهوم النص”. فمنذ تبدت الحيرة الواضحة لدي المسلمون جميعا منذ ظهور الاسلام عن طبيعة النص القرآني ومدي تعدد اشكاله وطرقه وبنائه اللغوي وايقاعه الموسيقي وجرسه ذو السطوة علي الاذن كان الاعجاب به وجدانيا اكثر منه عقلانيا. فتاريخ المسلمين بكليته خضع للوجدان والشعور دفاعا عن الاسلام بحفظ القرآن في الصدور وترديده عبر الاجيال دون النظر اليه نقديا من داخله. فالنقد من خارج النص سهل يستوي فيه المستشرق والمحلي، لكن ان يكون التمرد علي الموروث الكهنوتي من داخل القلعة فتلك ما لا يجوز تخوفا للقول الشهير: إن القلاع تسقط من داخلها.
لهذا كانت نتائج الهبة التفتيشية لمحاكم التفتيش الاسلامي في حالة طه حسين رؤوفة ورحيمة به مقارنة بما جري لابو زيد. الاول لم يتعدي التحقيق مكتب وكيل النيابة، ثم تم حفظه مع شكر وامتنان لعميد الادب العربي. اما في حالة ابو زيد فالامر وصل الي منصة القضاء واصدار الاحكام. فالرجلين ينتميان الي نفس قسم اللغة العربية بنفس الكلية وبنفس الجامعة في مصر. كلاهما كتب عن النص اما الشعر الجاهلي عند الاول واما القرآن ذاته عند الثاني. فالنصين بالنسبة للعقل المصري من مصدر واحد هو مجتمع عرب الجزيرة. كلاهما بوزن وقافية وسجع وجرس وايقاع صوتي يشاركهما علي نفسي القدر احتواء كلاهما علي احداث واقوال واساطير قديمة تعود الي ماقبل ظهور اللغة العربية علي وجه الارض.
عاد د. طه حسين الي الجامعة، اما ابو زيد فلم يعد ربما لان السلطة في قمة المجتمع لم تعد هي السلطة وان السلفية من قاع المجتمع لم تعد هي ايضا السلفية القديمة، كلاهما كانا اقل تحضرا عند مقارنتهما الزمانية بمثيلها زمن الليبرالية المصرية. والاهم ان المناخ والبيئة السياسية قد تغيرا حيث دارت دفة المجتمع بكليته لتكون عكس اتجاه الريح في العالم اجمع، وتصبح مصر مفرخة للارهاب يخرج منها قادة تنظيم ارهابي عالمي. فالفصل من الوظائف والابعاد عن المهنة بل والنفي الي المنافي هي اقصي العقوبات المصرية منذ الفراعنة وحتي الان، وهل كان الخروج من الجنة والنفي الي كوكب الارض سوي اقصي ما يمكن فعله مع آدم لعصيانه وتمرده كاول جريمة ارتكبها ابو البشر؟ تشابهت الاحكام داخل النص وداخل اقدم حضارة دينية مع بعضهما، وكان الضحية هو الانسان والعقل في كلاهما.
بعد محنته لم يذهب الباحث وصاحب كتاب “مفهوم النص” الي بلاد النفط ليخون عقله ومنهجيته مثلما فعل كثيرين من القوميين والعروبيين بل والماركسيين، بل ذهب الي جامعة ليدن حيث اضاف ما لم يكن ممكنا اضافته من فكر وعقلانية علي ارض الوطن. ظل اعداؤه يقذفونه بكل التهم ورفضت دولة خليجية نفطية استضافته حفاظا علي انغلاقها لتفترسها الاصولية صاحبة مفهوم غريب ومضلل للنص لتعود بها الي عصر الكهوف والظلام، فكيف تستضيف باحثا مناضلا من صفوف الطبقات التحتية في مصر، ثوريا في توجهه السياسي مثلما هو ثوري في تحليله ومفهومه للنصوص. ثورية ابوزيد هو ما جعل السلطة الفوقية والاصولية التحتية في مصر يلتقيان علي رقبة رجل واحد، اتهمه الدهماء واعتمدت السلطة حكم الغوغاء فلم يكن هناك من حل سوي الابعاد الي جنة هولندا التي كانت معقل العقلانية في زمن التنوير وحتي يومنا هذا.
elbadry1944@gmail.com
• كاتب مصري