نساء القاعدة وداعش وأخواتهما في الارهاب والتطرف كثيرات. فمن هيلة القصير ووفاء الشهري وحنان سمكري ونجوى الصاعدي ووفاء اليحيا وهيفاء الأحمدي في السعودية إلى العراقية “سجى الدليمي”، والمغربية “فتحية المجاطي” والبلجيكية من أصل مغربي “مليكة العرود”، وصولا إلى “حياة بومدين” الفرنسية من أصل جزائري التي شاركت مؤخرا في مجزرة “شارلي ايبدو”.
غير أن الباكستانية “عافية صديقي” تبقى الأخطر والاشهر على الإطلاق، بدليل أن القاعدة وداعش تستميتان من أجل استرجاعها من السجون الأمريكية.
وهناك أربع وقائع تؤكد ذلك: الأولى في 2011 حينما سعى أيمن الظواهري مبادلتها بأمريكي اختطفه تنظيمه، والثانية في 2012 حينما عرض تنظيم القاعدة في بلاد المغرب مبادلتها برهائن غربيين محتجزين في الجزائر، والثالثة في 2013 حينما اقترحت داعش الافراج عنها مقابل شابة امريكية كانت تعمل مع منظمة إغاثية في سوريا قبل اختطافها، والرابعة في 2014 حينما قدمت داعش أولا عرضا بمبادلتها بالرهينتين “ستيفن سوتلوف” و”ديفيد هاينز” قبل ذبحهما، ثم قامت بتجديد العرض قبل قيامها بجز عنق الصحافي الامريكي “جيمس فولي”.
وتختلف الصديقي عن غيرها من القاعديات والداعشيات بأنها تحمل مؤهلات علمية عالية من مؤسسات أكاديمية مرموقة. فهي مثلا حاصلة على درجة الدكتوراه في علم الأعصاب من جامعة امريكية عريقة هي “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”. بل أن الأدبيات الصادرة عن التنظيمين المتطرفين وأبواقهما الاعلامية تنفخان كثيرا في حجم قدراتها العلمية بقولها مثلا انها حاصلة على 144 دكتوراه فخرية من أكبر الجامعات العالمية تقديرا منها لجهودها العلمية، ناهيك عن قولها أنها طبيب الأعصاب الوحيد في العالم الحاصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفارد، وأنه لا يوجد حتى في أمريكا من تحمل مؤهلاتها. والمعتقد أن الهدف من هذا اللغو هو تمرير رسالة تدحض ما يتم تداوله من أن البسطاء والمحبطين وأنصاف المتعلمين هم فقط من يلتحقون بالقاعدة وداعش وأخواتهما. وبعبارة أخرى تريد الرسالة المفترضة أن تقول: “ها هي عالمة متخرجة من أرقى جامعات الغرب، وتعتبر من صفوة المجتمع الباكستاني تلتحق بنا عن قناعة”.
فماهي القصة الحقيقية لهذه الإمرأة الخطيرة بحسب الدوائر الأمريكية والغربية، والبريئة بحسب الدوائر الباكستانية والجهادية المتطرفة؟ وما هي ملابسات اعتقالها؟
برز إسم “عافية صديقي” على سطح الأحداث بـُعيد الحرب الدولية على الإرهاب، وتحديدا في مارس 2003 حينما ألقت بانكوك القبض على الإرهابي البلوشي “خالد شيخ محمد” في أحد المنتجعات السياحية التايلاندية وسلمته مخفورا إلى السلطات الباكستانية التي سلمته بدورها إلى نظيرتها الامريكية بسبب دوره القيادي في التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وباستلام الامريكيين للرجل ونقلهم له من كراتشي إلى قاعدة باغرام الأفغانية ومنها إلى معتقل غوانتانامو، لاحظت وكالة الاستخبارات الامريكية وشريكتها الباكستانية اختفاء العالمة “عافية صديقي” مع إبنيها أحمد ومريم وطفلها الرضيع سليمان من مسكنهما في حي “غولشان” الفخم في كراتشي بالتزامن، الأمر الذي عزز من فرضية أن تكون لصديقي علاقة بتنظيم القاعدة أو حركة طالبان. وقتها سارع الإعلام الغربي إلى إطلاق اسم “سيدة القاعدة” عليها لأنه لم يسبق حتى تاريخه أن عـُرف عن القاعدة استعانتها بالنساء في أنشطتها.
وتمضي الأيام والسنون حتى نجاح السلطات الأفغانية المحلية في ولاية غزنة في جنوب شرق أفغانستان المضطرب في اعتقال صديقي بعد خمس سنوات من اختفائها أي في عام 2008 (يمثل هذا تحديدا أحد الجوانب الغامضة التي لم يكشف النقاب عنها حتى الآن في سيرة صديقي، وبمعنى آخر أين كانت في الفترة من 2003 إلى 2008؟).
وطبقا للأمريكيين فإن الأخيرة وقت إعتقالها كانت تحمل كيلوغرامين من سيانيد الصوديوم مخفية في زجاجات كريم مرطب، إضافة إلى خطة لشن حرب بيولوجية وخرائط هندسية لجسر بروكلين ومبنى “امباير ستيت” وحي “وول ستريت” المالي في نيويورك. وكان هذا مبررا كافيا لقيام كابول بتسليم صديقي إلى القوات الأمريكية التي نقلتها فورا إلى الولايات المتحدة حيث اودعت المعتقل باسم “السجين 650” وأخضعت لتحقيق مكثف ــ وفي قول آخر تم نقلها إلى أمريكا بعد سنوات قضتها في سجن سري داخل قاعدة باغرام، وهذا هو ما زعمته صديقي نفسها في أول ظهور لها أمام محكمة إمريكية في 2010. والمعروف أن هذه المحكمة قضت بسجنها 86 عاما بتهمة الشروع في القتل وليس بتهمة العلاقة بتنظيم القاعدة. وتهمة الشروع في القتل هي إشارة إلى ما ورد في الوثائق الامريكية من أن صديقي قامت أثناء التحقيق معها في أفغانستان بالسطو على بندقية وإطلاق النار منها على أمريكيين وهي تصرخ “الموت لأمريكا” و”سوف أقتل جميع الامريكيين”، علما بأنها أصابت نفسها بجروح ولم تصب أيا ممن كانت تستهدفهم.
وفي سيرة صديقي أشياء أخرى مثيرة منها أنها عاشت طفولتها ما بين باكستان وزامبيا، وعندما بلغت سن 18 عاما سافرت إلى ولاية تكساس للالتحاق بشقيقها، وفيما بعد درست بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وحصلت منه على درجة الدكتوراه في علم الأعصاب، وبالتالي فهي بحكم هذا التخصص يـُمكن الاستفادة منها في الحروب القذرة (ربما يفسر هذا سبب استماتة الدواعش والقاعديين استعادتها). إلى ذلك تقول سيرتها أنها تزوجت زواجا تقليديا في التسعينات في كراتشي من مواطنها الطبيب أمجد خان الذي التحق بها في الولايات المتحدة. وطبقا لبعض المصادر فإن الزوجين كرسا جزءا كبيرا من وقتهما في أمريكا للعمل الخيري الاسلامي وتوزيع المصاحف، ثم قاما خلال عام 2001 بجمع التبرعات لمنظمات اسلامية وشراء نظارات ليلية وكتب عن الحروب ومعدات أخرى مثيرة بقيمة اجمالية وصلت إلى عشرة آلاف دولار. ولما كانت سنة 2001 هي سنة أحداث 11 سبتمبر، فإن رادارات مكتب التحقيقات الفدرالي كانت متيقظة وتسجل تحركاتهما استعدادا للإيقاع بهما في اللحظة المناسبة. لكنهما عادا إلى بلدهما في 2002 حيث تطلقت صديقي من أمجد خان بناء على طلبها، وتزوجت بعد ذلك من “عمار البلوشي” ابن شقيق الارهابي خالد شيخ محمد. أما عائلتها فتنفي ذلك، بل وتزعم أن عناصر من المخابرات الباكستانية والامريكية هي من اعتقلت صديقي في عام 2003 أثناء مغادرتها لمنزل والدتها باتجاه مطار كراتشي للعودة جوا إلى مكان عملها في راوالبندي.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh