بداية أود التنويه بالاجتماع الخاص الذي عقد يوم السبت الماضي 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بين قضاة المحكمة الجعفرية في الإحساء والقطيف ووزير العدل السعودي الشيخ عبدالله بن محمد آل الشيخ، والذي جرى في أجواء ودية وفقا لبعض المصادر المطلعة. وقد أسفر اللقاء عن سحب القضاة الشيعة لاستقالتهم الجماعية التي قدموها في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي احتجاجا على تقليص صلاحياتهم القضائية، وتحويل المحكمة إلى دائرة ملحقة بالمحكمة العامة، مما يعني تدخل المحاكم العامة (السنية) في شؤون المحكمة الشيعية التي تختص بالأحوال الشخصية (النكاح والطلاق والرجعة والخلع) والمواريث، والأوقاف، وخصوصا ما يتعلق منها بإلغاء صلاحياتها بفض المنازعات المتعلقة باختصاصاتها، مثل النظر في الإثبات إذا كانت فيه خصومة بين أطرافه، أو نشأت الخصومة أثناء نظره أو وُجدَ اعتراض على نظرة ممن له مصلحة فيه.
كما أغفلت اللائحة ذكر اختصاص المحكمة الجعفرية في النظر في المحجور عليه، وناقص الأهلية، والمفقود، والولاية على القاصرين، والهبات، والتي تدخل في قضايا الأحوال الشخصية. كما تضمنت اللائحة عدم صلاحية المحكمة الجعفرية بالنظر في القضايا التي لا يكون كل أطرافها من الشيعة. وعلى سبيل المثال، لو تقدم رجل من الشيعة وطلب عقد النكاح على امرأة غير شيعية)بموافقتها ورضاها) وكذا الأمر بالنسبة للمرأة الشيعية من رجل غير شيعي، فإن القاضي الجعفري لا يملك صلاحية إبرام عقد النكاح. الكثير من القضايا السالفة (رغم إنها ضمن قوانين الأحوال الشخصية) التي أغفلتها اللائحة أصبحت من اختصاص المحاكم العامة وكتابات العدل وفقا للمادة العاشرة من اللائحة. مع انه في مثل هذه الحالات ينبغي احترام شؤون واختصاصات القضاء الجعفري، وبالتالي كان ينبغي النص في اللائحة على امتناع المحاكم العامة عن ذالك لعدم الاختصاص، وهو أمر متعارف عليه في مثل هذه الحالات، ومنصوص عليه قضائيا في جميع دول العالم.
أقول ذلك وأنا لست من أنصار ومؤيدي تشطير المحاكم والقضاء والأنظمة مذهبيا، لكن ذلك يتطلب وجود قضاء وأنظمة عدلية بعيدا عن الفئوية والمذهبية ويساهم فيها الجميع على قدر من المساواة. وفي ظني إننا نحتاج لتحقيق ذلك إلى تذليل كثير من الصعوبات والعقبات الموضوعية والذاتية، وتحقيق جملة من المتطلبات والإجراءات غير المتوفرة في الوقت الحاضر. ولا يفوتني هنا استحضار واقعة تاريخية دالة في القضاء السعودي، عندما كلف القائد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود الشيخ علي الخنيزي (شيعي) قاضيا عاما يتحاكم أمامه جميع الناس من كافة المناطق والمذاهب، ولم تكن هناك حساسية من أي جهة كانت إزاء هذا القرار.
وفي هذا المجال عندي الكثير من الملاحظات بشأن عمل القضاء الجعفري، وخصوصا ما يتعلق منها بالأوقاف الخاصة، العائلية، إلى جانب الأوقاف الحسينية التي تصل أثمانها وإيراداتها إلى مئات الملايين من الريالات، تهدر من دون أن يستفاد منها (باستثناء حفنة قليلة من الأفراد) على الوجه الصحيح لصالح فئات المجتمع، ومن بينهم الكثير من الفقراء والمحتاجين والعاطلين. والأمر ذاته ينطبق على الخُمس (الذي هو أموال الناس) الواجب إنفاقه في المجالات الإنمائية المختلفة في داخل الوطن، وتشكيل هيئة مشرفة مختصة مشهود لها بالأمانة والدراية والمعرفة لتحقيق هذا الغرض، وبما يحقق التكافل والتضامن الاجتماعي السليم وما فاض عن الحاجة يمكن تحويله إلى المراجع الدينية. هذه الاستهدافات الإصلاحية تتطلب الكثير من الجهد والتثقيف والتسامح والانفتاح والتفاعل الايجابي من قبل المرجعية ووكلائهم ورجال الدين والقضاة وممثلي المجتمع المدني.
ووفقا لما رشح من أخبار، فإنه يجري التسريع بعملية تعديل اللائحة التنظيمية للمحكمة الجعفرية الصادرة بناء على قرار وزير العدل في 15-7-1426 هجرية والتي كانت محل اعتراض من قبل القضاة الشيعة.
إننا نأمل أن يضع صدور نظامي القضاء وديوان المظالم، حدا لكثير من التجاوزات لحقوق الإنسان، والانتهاكات العنصرية والطائفية، على شاكلة التفريق بين الزوجين، لعدم التكافؤ في النسب أو المذهب، أو إنزال عقوبات التعزير بالسجن والجلد والفصل والتوقيف من العمل، في قضايا، هي من صميم حرية الرأي والفكر والتعبير، والتي طالت كثيرا من الكتاب والإعلاميين والناشطين الاجتماعيين ودعاة الإصلاح والمجتمع المدني في بلادنا. هذه العقوبات التي في غالبيتها تتناقض مع مواد النظام الأساسي للحكم، ونظام الإجراءات الجزائية الصادر بمرسوم ملكي، ناهيك عن القوانين والمعاهدات العربية والإسلامية والدولية لحقوق الإنسان التي أنضمت إليها، وصادقت عليها المملكة. وفي هذا الصدد أشيد بقرار ديوان المظالم الذي صدر قبل أيام بإلغاء قرار الفصل الصادر (قبل أربع سنوات) بحق الشيخ حسن المالكي من عمله في وزارة التعليم، ويقضي بإعادته إلى وظيفته، بعد أن كان ضحية لانتهاكات متوالية من قبل الخط المتشدد في إدارة التعليم، بسبب آرائه الفكرية وعمله في مراجعة ونقد المناهج التعليمية.
لكن في الوقت نفسه تابع الجميع الخبر المؤسف الذي نشرته “العربية نت” قبل أيام، والذي هو تكرار لما حدث مع المالكي ولكن بصورة أخرى. وهو القرار المتعلق بالأكاديمي والكاتب السعودي في صحيفة الرياض محمد بن علي المحمود والصادر من مجلس جامعة القصيم (الإمام سابقا) والقاضي بإقصائه من التدريس بقسم اللغة العربية، وتحويله إلى عمل إداري ‘’خشية على عقائد الطلاب مما يعتبرونها أفكارا منحرفة وانعزالية يلقيها عليهم في المحاضرات’’.
وقبل أن اختم مقالي أجد من واجبي التنويه والإشادة بعلنية الجلسة ما قبل الأخيرة لمحاكمة الدكتور عبدالله وشقيقه عيسى الحامد في مدينة ‘’بريده’’ بالقصيم، حيث تسنى لي ومعي لفيف من المهتمين بحقوق الإنسان ومن دعاة الدستور والمجتمع المدني في بلادنا حضورها، وقد تكررت علنية الجلسة في الجلسة الأخيرة التي حضرها لأول مرة ممثلو الصحافة المحلية، حيث كان فضيلة القاضي إبراهيم الحسني محل تقدير واحترام من الجميع، على حسن إدارته، وشفافيته وتعامله الراقي مع المتهمين والحضور.
نتمنى أن تكون جلسة النطق بالحكم التي ستعقد في تاريخ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري منسجمة مع تلك الأجواء الايجابية. جلسات المحاكمة تلك غاب عنها للأسف الشديد ممثلو اللجنة الوطني ‘’الأهلية’’ لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية (الرسمية) لحقوق الإنسان رغم أن ذلك يقع ضمن صميم عملهم ومسؤولياتهم المباشرة .
na.khonaizi@hotmail.com
كاتب سعودي
صحيفة الوقت البحرينية 8-11-2007