لماذا نُحبّ الغرب؟ قد يبدو هذا السؤال غريبا، وقد يكون هو السؤال الخطأ في سياق السائد الثقافي العربي/الإسلامي.
قد يكون السؤال الأمثل ــ من زاوية الاتساق مع الجدل الثقافي الاستشكالي الراهن ــ مطروحا بالعكس؛ وحينئذٍ، يصبح السؤال: لماذا (لا) نحب الغرب؟ فالغرب، من حيث هو واقع، ومن حيث هو سياق ثقافة، مُتوفّرٌ على كل ما يدعو إلى المحبة والإعجاب، بينما التلقي له واقعا وثقافة، وخاصة في عالمنا العربي/الإسلامي، يجعله – للأسف – موضوع كراهية ورفض، رغم كل مستويات الإعجاب الخفي، الإعجاب الذي قد لا يُعترف به صراحة؛ لأنه اعتراف يفتح جُرحا نرجسيا نازفا في ثنايا الذات.
من العار علينا أن يخرج من بيننا عشرات الألوف من الشباب إلى عالم الغرب مبتعثين لتلقي العلم ولمعايشة الحضارة، ثم يعودون بشهادات جافة؛ دون أن يعوا أنهم عايَشوا منبع الحضارة ومصدر التقدم وقمة الوعي الإنساني
في سياق وعينا المحكوم بالتصورات الضدية، يتم طرح سؤال الكراهية وكأنه هو الأصل، وكأنه هو القاعدة المتفق عليها وعيا وموقفا. إنْ تَمَّ طرحُ سؤال: (لماذا لا نحب الغرب؟)؛ كان السؤال تأكيدا لواقع، وليس سؤالا استنكاريا يفتح الباب لخيارات أخرى. أي يبدو السؤال وكأنه يبحث عن مبررات موضوعية لهذه الحالة (اللاّحب) المتفق عليها، وإن تم طرح سؤال: (لماذا نحب الغرب؟)؛ بدا وكأنه سؤال استنكاري يوجب الكراهية، إذ لا يوجد ــ وفق سياق هذا السؤال الإنكاري ــ ما يدعونا إلى محبة الغرب، أي كأن كل دواعي المحبة للغرب معدومة، أو يجب أن تكون معدومة؛ ولو على مستوى الافتراض الإيديولوجي المزعوم.
سأتجاوز عن الإشكاليات المرتبطة بمثل هذه الأسئلة التي تحاكم بنية التصور؛ ليكون الحديث مجرد حوار جماهيري مسترسل، حوار يُسائل الذهنية العامة عن الأسباب الكامنة وراء مواقفها اللامعقولة من الغرب كثقافة وكحضارة، ومن الغربيين كمبدعين للإنسان، وكمُحررين – على أكثر من صعيد – لهذا الإنسان. ومن هنا، فكلامي في هذا المقال لن يكون أكثر من حوار عام (شبه عامي) عن طبيعة علاقتنا العاطفية والواقعية بالغرب وبالغربيين؛ لنعرف حقيقة: لماذا لا نحب الغرب مع توفر شروط المحبة، ولماذا نكره الغرب مع انعدام شروط الكراهية، ولماذا تتجه عقولنا وعواطفنا بعكس قوانين العقل والوجدان؟
بداية، ليس الغرب هنا هو الغرب الجغرافي فحسب، بل هو الغرب الحضاري بمعناه الواسع. عندما نقول: الغرب، فنحن نقصد ثقافة الغرب وحضارة الغرب، نقصد الغرب في سياقه الحضاري المعجز الذي أخرج البشرية من ظلمات الجهل والفقر والظلم والقهر والاستبداد إلى فضاءات أنوار العلم والوفرة والحرية والعدل والإحسان. نقصد هذا الغرب تحديدا، في مقابل كل الثقافات السابقة عليه والمجاورة له، وخاصة الثقافات التقليدية المتخلفة التي كانت – ولا تزال – تؤسس وتشرعن وتدعم كل صور الجهل والفقر والظلم والاستعباد والطغيان.
لتتحدد لنا معالم الصورة على نحو أوضح؛ يجب أن نتساءل من دون أية عُقَدٍ أو حساسيات، أو حتى حسابات إيديولوجية أو سياسية: كيف ستكون حال العالم، لو لم يكن الغرب موجودا، ماذا ستكون طبيعة الحياة البشرية، لو لم يقم الغرب بهذا الانبعاث الحضاري الاستثنائي في التاريخ؟
من المؤكد أنه لا شيء سيتغير عما كان عليه الأمر منذ ألف عام، أو منذ عشرة آلاف؛ لو لم يقم الغرب بهذه المعجزة الحضارية التي غيّرت مجرى التاريخ، بل وغيرت وجه الأرض أيضا.
لو لم يقم الغرب بهذه المعجزة الخارقة؛ لبقيت الحياة تعيد ذاتها على نحو رتيب مكرور؛ ولبقي الناس هم الناس، والأشياء هي الأشياء، والبؤس هو البؤس لعامة الناس، بينما النعيم للقلة القليلة من كل أمة، والأنكى أنه كان نعيما على حساب ملايين البؤساء.
العالم بالغرب، والعالم من دون الغرب، هما عالمان مختلفان يصعب تصورهما بعد أن تغرّب العالم. هل يمكن تصور الفرق الهائل بين هذين العالمين؟
لا شك أن الفرق سيكون كبيرا ورهيبا؛ بقدر الفرق الكبير والهائل بين أن تقطع مسافة سبعة آلاف ميل على ظهر حمار أو جمل في لهيب الصحراء، وفي تحديات وعوائق لا تنتهي من جبال وغابات وأنهار وبحار، وبين أن تقطع المسافة نفسها على متن طائرة حديثة مزودة بكل وسائل الراحة والرفاهية، إنه الفرق بين أن تبعث برسالة من مكة إلى بغداد، لتأخذ مدة زمنية تتجاوز الأربعين يوما، وبجهد لا يمكن تصوره اليوم، وبين أن تنقل الأحداث في لحظتها (فضلا عن الرسائل) بالصوت والصورة (بضغطة زر، وفي اللحظة نفسها) بين معسكر أو قرية في أدغال الأمازون؛ لتصل إلى مشاهدٍ مستلقٍ على أريكته في إحدى قرى الهند الضائعة بين عشرات الألوف من القرى هناك.
ما أنجزه الغرب يكاد يكون كَوْنا آخر، عالما آخر، غير العالم الذي عرفه الناس منذ فجر التاريخ. أشياء واضحة وبدهية وبسيطة وساذجة كما تبدو اليوم لنا، ولكنها في سياق الزمن اللاغربي (ما قبل حضارة الغرب) هي أشبه بالمعجزات، بل هي أكبر من كل المعجزات التي تناقلتها الأساطير المؤسسة لعالم الجهل والتيه وإلغاء الإنسان.
بفضل الغرب، وبفضل الغرب وحده (إذ أنجز الغرب ما أنجز بمعزل عن بقية العالم، ودونما مشاركة حقيقية)، دخلت البشرية كونا آخر، لا مجرد عصر من العصور، بل ولا مجرد عصر بدل عصر، بل قام الغرب بصياغة العالم من جديد، العالم بأناسه وبأشيائه؛ وكأنما انتقلت البشرية – بفضل الغرب – من كوكب إلى كوكب آخر، إلى كوكب غير الكوكب الذي درجت عليه في رحلة بؤسها الأزلي منذ ملايين السنين.
من المفارقة أننا نعيش ثمرة تفوّق الغرب في أشياء كثيرة محسوسة وملموسة، أشياء لا تقع عليها حواسنا في فترات متقطعة متباعدة؛ بحيث يكون لنا بعض عذر في أن نغفل أو أن نتغافل عنها، وإنما هي أشياء تقع عليها حواسنا في كل لحظة نعيشها، بحيث أصبحنا نحياها كما هي الحياة ذاتها، ولكننا – للأسف – لا نعرفها حقيقة، وإن عرفناها لا نعترف بها، وإن اضطررنا لهذا السبب أو ذاك؛ فاعترفنا بها، لا نأخذ بشروط ولوازم هذا الاعتراف. وتكون النتيجة أننا نتعاطى عمليا ووجدانيا مع الغرب كما نتعاطى مع أي عالم آخر لم يبدع شيئا، بل قد يكون تعاطينا مع الغرب يحمل بعض ملامح الكراهية، وبعض صور العداء؛ نتيجة كوننا ندرك أن الغرب بتفوقه الاستثنائي يجعلنا – تلقائيا، ومن غير قصد منه – على هوامش التاريخ، لا في الحاضر فحسب، وإنما في الماضي الذي أحرقناه بالتمجيد الفارغ أيضا.
نحن العرب، ربما لا نستطيع التحرر من كراهيتنا للغرب؛ لأننا لا نستطيع التحرر من أفضال الغرب علينا، تلك التي ملأت علينا تفاصيل حياتنا.
الغرب أنقذنا حتى من أنفسنا، من أعطاب ثقافاتنا التقليدية، من توحشنا التاريخي، من تخلفنا الموروث، وأدخلنا – طوعا وكرها – إلى عصر الحضارة الحقة: عصر الإنسان. فنحن – في الواقع، وشئنا أم أبينا – نتاج الغرب في كل مستويات الرؤى والأفعال الإيجابية التي تنتظم حياتنا اليوم. ومن جهة أخرى، نحن نتاج أنفسنا في كل الرؤى والأفعال السلبية التي تخترق هذا السياق الإيجابي الاستثنائي في تاريخ الإنسان.
ما يحزنني أشد الحزن، ويجعلني متشائما أشد ما يكون التشاؤم، وخاصة في سياق محاولاتنا استنقاذ الأمة من واقعها المتخلف، أن هذه الأجيال الصاعدة من شبابنا، هذه الأجيال التي تحيا حياة صاخبة على قمة ما أبدعته حضارة الغرب، لا تعرف أنها تحيا زمن الغرب، وأنه لولا هذا الغرب الذي لم تقدره حق قدره؛ لكانت في زمن آخر وعالم آخر، بل ولربما (بسبب المجاعات والأمراض والأوبئة التي كانت واسعة الانتشار إلى ما قبل تعولم حضارة الغرب) لم يكتب لها الوجود أصلا، فضلا عن الحديث عن نوعية وجود!.
يجب أن نحرك وعي هذه الأجيال، وأن نصارحها بحقيقة موقع الغرب من حياتنا المعاصرة، وذلك من خلال لفت أنظارها إلى أشياء بسيطة جدا، قبل الدخول بها إلى مسارات الجدل الفكري والفلسفي حول موقع الغرب من العالم، ومن تصورنا عن هذا العالم. فليس من المعقول أن نخاطب النخب الواعية بما هي واعية به أصلا (حتى وإن عانَدَ بعضُها به أو بأكثره)، بينما السواد الأعظم من الجماهير المتعلمة، بل والمثقفة أيضا، غائبة أو مغيبة عن الوعي بأبسط الأشياء وأكثرها وضوحا وإلحاحا على تفاصيل الحياة، وخاصة مما له دلالة عميقة على الأثر الإيجابي للغرب في حياة الناس أجمعين.
من العار علينا أن يخرج من بيننا عشرات الألوف من الشباب إلى عالم الغرب مبتعثين لتلقي العلم ولمعايشة الحضارة، ثم يعودون بشهادات جافة؛ دون أن يعوا أنهم عايَشوا منبع الحضارة ومصدر التقدم وقمة الوعي الإنساني.
يذهبون ويعودون متمتعين بكل ما أبدعه الغرب، ولكن في حالة جفاف عاطفي مع الغرب. يحيون بضع سنوات أرقى حياة مع الغرب؛ دون أن يعوا قيمة هذا الغرب، دون أن يدركوا استثنائيته، وأنه هو من أبدع هذا العالم بكل ما فيه من علوم ومن نُظُم تعليمية ومن جامعات راقية..إلخ، يعودون وكأن العالم الاستثنائي/عالم اليوم (عالم الغرب) الذي وُجدوا فيه منذ الولادة، قد وُجِدَ هكذا منذ أن وُجد، أو كأن العالم كان سيأخذ هذا الطريق من التقدم حتما؛ بالغرب أو بدون الغرب!.
بعضهم يتصور أن فضل الغرب عليه لا يتعدى دراسته في جامعة من جامعاته الراقية. الغالبية الساحقة من أجيالنا التي تتواصل – تعليميا – مع الغرب لا ترقى – وعيا – إلى مستوى اتخاذ الغرب نموذجا، لا تعي المشوار الحضاري الاستثنائي الذي سلكه الغرب (وعجز الآخرون أن يقفوا حتى على ضفاف بدايته الأولى!)؛ كي يكون العالم على ما هو عليه الآن.
هذا ليس مديحا للغرب، بل هو وصف لواقع، ونقد لموقفنا الضدي اللامعقول من هذا الواقع. محبة الغرب ليست مجرد شعور متروك لنزوات العاطفة؛ فنعززها بمديح أو ندفعها بهجاء.
هذه المحبة المفترضة ليست موقفا عاطفيا؛ بقدر ما هي حضور عقلاني واعٍ، يعكس مستوى الوعي ونوعيته واتجاهه. إنك عندما تحب الغرب، فلا بد أن تعي أن هذه المحبة هي محبة (ما فوق عاطفية)، أي أنها تتجاوز المطلب العاطفي البسيط؛ لتكون مسألة موقف قيمي، كما هي مسألة عقلانية، ومسألة حضارية، ومسألة إنسانية. وعندما تكره الغرب فأنت في موقف سلبي من كل هذه المسائل التي تعكس – بالضرورة – مستوى تحضرك، بل ومدى قابليتك للتحضر؛ مهما كان حجم التبجح والادعاء في هذا المضمار.
أن تحبَّ الغربَ، ومن ثم تستلهم الغربَ؛ لا يعني أنك تعيش عصرك (والذي هو عصر غربي رغما عنك) فحسب، وإنما يعني- أيضا – أنك تعي عصرك تمام الوعي، تعي اختلافه وتميزه الاستثنائي وموقعه من التاريخ. كما أن كراهية الغرب لا تعكس حالة عاطفية خاصة؛ بقدر ما تعكس ما هو أكثر من ذلك، لتكون تعبيرا عن خروج همجي على العصر؛ رغم كل صور الانغماس في المعاصرة. ومن هنا، فكراهية الغرب ستبقى كراهية عمياء، لا دوافع لها إلا دوافع الجهل بهذا العصر، وباختلاف هذا العصر، وبتميز هذا العصر عن كل ما سبقه من العصور، إضافة إلى الحسد الدفين الذي يحرق قلوب الكُسالى وقلوب المفلسين من الإبداع، والذين يتلظّون غيظاً على من يمتلك جديّة العاملين وثراء المبدعين. وقديما قال المتنبي:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا
لمن بات في نعمـائه يتقلبُ
- محمد علي المحمود كاتب سعودي إسلامي
عجيب أن يكون كاتب هذا المقال الرائع كاتب إسلامي سعودي .. أنه كاتب تنويري صادق مع نفسه وشجاع في رأيه ونبيل في مقاصدة..