لا يتحمل النظام القائم، في مصر، مسؤولية ما أصابها. ولكنه يتحمل مسؤولية إخراجها منه. ومن الظلم تصوّر أنه يمكن أن يفعل ذلك بين يوم وليلة. فما أصاب مصر من تدهور في السياسة، والثقافة، والمجتمع، والاقتصاد، نجم عن تراكم على مدار عقود، ولا يمكن للخروج منه إلا أن يكون نتاج عملية تراكمية تحتاج إلى عقود. ولن تكون عملية الخروج مضمونة، وآمنة، دون التفاف قطاعات اجتماعية واسعة حول النظام. وهذا لن يتأتى دون قناعة من جانب هؤلاء بجدوى العملية، وجدية النظام.
مناسبة هذا الكلام الحكم الصادر بحق الكاتبة فاطمة ناعوت، والذي سبقه حكم على الكاتب إسلام بحيري بتهمة ازدراء الأديان. بدايةً، ينبغي القول إن ناعوت وبحيري لا يمثلان قطاعاً واسعاً من الناس، فهما يمثلان شريحة من شرائح الطبقة الوسطى المصرية. ومع ذلك، فإن الشريحة التي يمثلانها هي الأكثر انخرطاً في صناعة الرأي العام، والتأثير عليه، بحكم امتلاكها لناصية التعبير، وما لديها من رأس المال الرمزي، وصلتها بوسائل الإعلام. وفي هذا كله ما يجعل موقفها الإيجابي من النظام شرطاً من شروط نجاحه.
وبدايةً، أيضاً، فلنقل إن التدهور الذي أصاب مصر تجلى في، ونجم عن، التنافس بين قوى اجتماعية مختلفة على هوية الدولة والمجتمع منذ ثورة العام 1919، وكان الدستور، في حينها، كما هو الآن، مربط َالفرس. ولا ينبغي، بأثر رجعي، النظر إلى تزامن تحفظات طه حسين على دستور العام 1923، وظهور جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها مصادفة تاريخية، فكلاهما كان ممثلاً لاتجاه يختلف عن الآخر في فهمه، أو رؤيته، لهوية الدولة والمجتمع.
لم يُحسم الصراع بين الجانبين بعد. وربما لن يُحسم قبل مرور عقود طويلة. وقد أسهمت الأنظمة المُختلفة، التي تعاقبت على حكم مصر، في تمويه وتشويه صورته، مدفوعةً بغريزة البقاء، طالما أن ثمة علاقة عضوية بين المُطلق والشمولي من الأفكار، والمُطلق والشمولي من أشكال الحكم.
فالديمقراطية، مثلاً، غير قابلة للتحقيق خارج النسبي، والمُحتمل، أما الدكتاتورية فغير قابلة للعيش دون مطلق من نوع ما. حتى في أنظمة معادية للدين من نوع الشيوعية السوفياتية، وغيرها، كان ينبغي تحويل الطبقة الاجتماعية إلى مطلق لتمكين النظام من البقاء. وفي آخر التجليات المأساوية للعلاقة بين المُطلق ونظام الحكم، أطلق صدّام حسين، بعد حربه الكارثية مع إيران، وهزيمته في الكويت، الحملة الإيمانية، بعدما تضعضعت مكانة المُطلق القومي.
وإذا كان ثمة من خصوصية وسمت الحالة المصرية، وسحبت نفسها على غيرها بتجليات مختلفة في العالم العربي، فقد ترافق تمويه وتشويه صورة الصراع بين مفهومين ورؤيتين لهوية الدولة والمجتمع، مع غيرة النظام مِنْ، وتنافسه مع، المفهومين والرؤيتين، ومحاولة تمثيل الجانبين. وفي هذه العملية المُعقدة ترتسم سمات الهُجنة التي وسمت أنظمة متعاقبة. فلا هي علمانية ولا دينية، بل فيها من هذا وذاك، بقدر يزيد، أحياناً، أو ينقص.
لا يتحمل النظام القائم، حالياً، في مصر مسؤولية هذا كله. فهذا، وغيره، جزء من تركة ورثها. ولن يتمكن من تصفية آثارها الكارثية بين يوم وليلة. فمن الظلم إضفاء صفات خارقة عليه. ولكن من الظلم، أيضاً، تجاهل حقائق من نوع أن مسؤوليته التاريخية، وما تستدعي من إمكانية الحكم له، أو عليه، تتمثل في محاولة الخروج بالبلاد والعباد من حالة التدهور التي أنجبها الفشل في تعريف هوية الدولة والمجتمع على مدار عقود طويلة.
وفي هذا ما يعيدنا إلى ناعوت وبحيري، وقبلهما إلى نصر حامد أبو زيد، الذي قضت محكمة، قبل سنوات أصبحت طويلة، الآن، بتفريقه عن زوجته. فهذه القضايا، وغيرها، من تجليات الصراع على هوية الدولة والمجتمع، وهي في الوقت نفسه من سمات الهجنة التي وسمت أنظمة تعاقبت على الحكم.
وإذا ما أردنا إمساك الثور من قرنيه فلنقل: إن غيرة أنظمة مُتعاقبة مِنْ، وتنافسها، مع مفهومين ورؤيتين على طرفي نقيض لهوية الدولة والمجتمع، لا تمثل سلاحاً ناجعاً في حماية الدولة والمجتمع من خطر الحركات الدينية الخلاصية، التي تجتاح العالم العربي، هذه الأيام، على طريقة الحركات الألفية والميسيائية التي ألحقت الكارثة بأوروبا في قرون مضت.
هؤلاء الذين نراهم في كل مكان، ونطلق عليهم تسمية الدواعش، بصرف النظر عن تسمياتهم المحلية، لن يختفوا من المشهد في وقت قريب، ولن يكتفوا، في محاولة الاستيلاء على دول ومجتمعات، بأقل من تدميرها.
ثمة عوام خارجية وداخلية، وعالمية إذا شئت، تفّسّر الجنون الألفي الذي يجتاح العالم العربي. والمهم، في هذا الشأن، أن هُجنة أنظمة مُتعاقبة في الحواضر قد أسهمت، بين أمور أخرى، في تهيئة وتسميد التربة التي أنبتت الدواعش، في ظل قوانين جعلت الصراع المعرفي، والسياسي، بين مفهومين ورؤيتين لهوية الدولة والمجتمع نوعاً من الملاكمة بين طرف مكتوف اليدين وآخر طليق اليدين، نتيجة القوانين التي فرضها النظام، كقانون الحسبة، وغيره، لتكون مكافئاً موضوعياً لقوانين حرية التعبير والتفكير. بمعنى أنك تعترف بالحرية، ولكن في قفص، وتحت طائلة العقاب.
المشكلة، كما ذكرنا، أن غريزة البقاء أملت على أنظمة مُتعاقبة سياسة الهُجنة. ولكن المعادلة تغيّرت الآن، بعدما أصبح بقاء الدولة والمجتمع في الميزان. مع ناعوت، وبحيري، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم، تميل الكفة لصالح الدولة والمجتمع، وربما النظام، ودونهم يختل الميزان.