إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
اتصلت بـ”خالد الخاني” هذا الصباح لأٌهَنِّئه بسقوط نظام الأسد، وقلت له أنني كنت سأصفَّق حتى لـ”إبن تيمية” شخصياً لو كان هو من أسقط الأسد”! أجاب “نحن من يجب أن نهنِّئك لأنك رافقتنا طوال هذه السنين”! تعرّفت إلى كتابات “خالد” عبر نصٍّ مؤلمٍ بروعته وَرَدني عبر الصديق دائماً “عمر حرقوص” في أول أسابيع الثورة السورية في العام 2011: “عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه“. أخبرني عُمَر أن الكاتب ما زال في دمشق، فاخترت له إسمَ “خالد الحموي” حتى خروجه من سوريا. لاحقاً، في باريس، قال لي “خالد” أنه كان عليه، مرةً في كل سنة، أن يزور “المخابرات” لكي يجيب على سؤال “من قتل والدك؟”. وكان دائماً يجيب “الإخوان المسلمون”! هل نحن في رواية من روايات “كافكا” أم في معتقل ألماني؟ أم في مُعتقل سوفياتي! لماذا كان مهماً لمخابرات الأسد أن تُسَجِّلَ كل سنة، في إضبارةٍ حقيرة، أن إبنَ طبيب العيون الحَموي يكذب ويتّهم الإخوان المسلمين بقتل والده؟ الآن سقط نظام الأسد، وستقوم سوريا جديدة وأفضل. أتمنى للفنان والصديق العزيز خالد الخاني أن تستعيد لوحاته “عيونها” وأن تستعيد ريشته ألوان الفرح كاملة.
بيار عقل
**
طفل في السابعة من عمره نجا قبل سنوات طوال، وتحديدا عام 1982، من مجزرة حماة غربي سوريا.. لكن قائد جيش النظام السوري حينها، الذي قتلت قواته عشرات الآلاف، لم يكن يدرك أن هذا الطفل سيجعله يهرب من أوروبا لسنوات، ثم يطارده في سوريا بعد سقوط النظام في الثامن من ديسمبر الجاري.
في فبراير من عام 1982، دخلت قوات النظام السوري مدينة حماة بعد حصارها لأيام، وقاد رفعت الأسد، عمليات القمع ضد تمرد تقوده جماعة الإخوان المسلمين بصفته رئيسا لـ “سرايا الدفاع”، وهي قوات خاصة مسلحة تابعة للسلطات.
إثر هذه العملية.. التصق لقب “جزّار حماة” برفعت الأسد.. وفي مارس من العام الجاري، أصدر مكتب المدعي العام السويسري اتهامات ضده بـ “إصدار الأوامر بارتكاب جرائم قتل، وأعمال تعذيب، ومعاملة وحشية، واحتجازات غير قانونية”.
خلف هذه القضية هو خالد الخاني، الذي نجا من المذبحة طفلا، وأصبح رجلا يُعرف بإصراره على ملاحقة من اغتصب حقه وسكان حماة.
روى الخاني لموقع “الحرة” تفاصيل المجزرة، وما واجهه وأسرته في سوريا على مدار سنوات، قبل الخروج إلى فرنسا وإقامة دعوى قضائية ضد الرجل الذي قاد عمليات قتل، طالت والده (الخاني) في حماة.
ولعل واحدة من أكثر الأمور إثارة للدهشة في قصة الخاني، هو أن “جزار حماة” أصبح جاره في إحدى ضواحي باريس.
وعاد الخاني بذاكرته إلى الوراء ليحكي قصته، قائلا: “خلال تلك الفترة (عند وقوع المجزرة) كان عمري 7 سنوات. حضرت كل هذه المآسي، حيث كنا بحي البارودية الجميل، الذي دُمر بالطبع وتمت تسويته بالأرض. قصفوا منزلنا واضطررنا للنزوح من منزل إلى آخر ثم خرجنا من الحي بأكمله، وكانت الطرقات مليئة بالجثث”.
كانت هذه آخر مرة يرى فيها الخاني والده، حيث طُلب منه الهروب مع والدته وإخوته ليبقى والده مع عمته المسنّة، فيما انتشر القناصة في الطرقات، مما اضطرهم “للهرب من موقع إلى آخر زحفا”.
حينها وصل الخاني مع أسرته إلى ملجأ في المدينة يحتمي به الناس وظلوا لعدة أيام، قبل أن يقتحم الجيش المكان ويحاصرهم 7 أيام “بلا طعام أو مياه، ووسط تهديات بالقتل، قبل أن يطلقوا سراحنا باتجاه الريف”.
مرت السنوات وانطلقت الثورة ضد بشار الأسد، وكان عمه رفعت، الشقيق الأصغر لحافظ الأسد، خارج البلاد.
كان الخاني من المشاركين في الثورة السورية منذ بدايتها، لكنه قال: “أنا فنان تشكيلي لا أملك دبابة ولا سلاح.. الثقافة واللوحات مهنتي، لكنني بدأت النشر عن الثورة وعن مجزرة حماة، التي لم يكن يعرفها كثيرون حينها”.
وتابع: “وصلتني تهديدات وطلبوا (قوات الأمن بنظام الأسد) مقابلتي، لكن قلت أعيدوا لي أبي أولا كمطلب تعجيزي، ثم بدأت عمليات البحث عني وملاحقتي قبل الهرب إلى ألمانيا ثم فرنسا”.
كانت الصدفة أن الخاني سكن في حي قريب من الحي الذي يسكن فيه رفعت الأسد، ووصف ذلك بأنه “كان غاية في الصعوبة”، مستطردا: “ازداد الضغط عليّ بشكل كبير، فأنا وقاتل أبي جيران في نفس الحي تقريبا”.
اختار الفنان السوري طريق القضاء، وحاول إقامة دعوى قضائية في فرنسا، لكن قوانين الدولة لم تسمح بذلك “لأنني لست مواطنا فرنسيا”.
حوّل الخاني بعد ذلك أنظاره نحو سويسرا، حيث كانت الدولة تسمح برفع مثل هذه القضايا عبر مواطنين غير سويسريين، “وتم تقديم الدعوى عام 2013، وحققت فيها السلطات القضائية السويسرية بالفعل، وكانت الفرحة كبيرة بقبول الدعوى”.
وفي سبتمبر 2013، كانت هناك تهمة بقتل والد الخاني ضد رفعت الأسد، الذي “غادر بعدها سويسرا ولم يعد قادرا على دخولها مجددا”، وفق الفنان التشكيلي.
وتابع الخاني: “استمرت المحاكمة لسنوات بسبب الإجراءات وعدم الاقتناع بما نقدمه وطلب المزيد من المعلومات والإثباتات.. لكن في 30 نوفمبر 2021، صدر قرار بالاعتقال، ويوم القرار هرب رفعت الأسد من فرنسا أيضًا”.
هذه القضية تضم أسماء كثيرة بجوار رفعت الأسد ممن شاركوا في تنفيذ المذبحة في حماة، وبدأ كثيرون عقب سقوط النظام في المشاركة في الدعوى.
وقالت السلطات القضائية السويسرية، لرويترز، في 17 ديسمبر الجاري، إن السلطات اقترحت إلغاء محاكمة رفعت الأسد بسبب مرضه، وطلبت من أطراف القضية إبداء آرائهم.
وكان من المقرر محاكمة رفعت الأسد (87 عاما) في سويسرا بتهم ارتكاب جرائم تعود إلى فترة كان فيها قائدا بالجيش السوري في 1982.
وفي بيان حول القضية صدر في 12 مارس من العام الجاري، قال محامو رفعت الأسد: “نفى السيد الأسد دائما أي تورط في الأفعال المتهم بها في هذه القضية”.
ويظل مكان وجود رفعت الأسد حاليا غير معروف، فقد عاش في الخارج، وكان معظم الوقت في فرنسا، منذ منتصف الثمانينيات، بعد اتهامه بمحاولة الإطاحة بشقيقه الرئيس الأسبق حافظ الأسد، والد بشار.
وغادر فرنسا إلى سوريا عام 2021، ومن غير المعلوم اليوم مكانه، أو ما إذا كان قد هرب من سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر الجاري، أو حتى إذا كان على قيد الحياة.
يذكر أن الرئيس السابق لسرايا الدفاع، أُدين عام 2021 في فرنسا بقضية “مكاسب غير مشروعة” تقدر قيمتها بنحو 90 مليون يورو.
وفي هذا السياق، أكد الخاني أنه “أطلق حملة للبحث عن رفعت الأسد داخل سوريا، من أجل تقديمه لمحاكمة”، لكنه أشار إلى أن أغلب التكهنات ترجح هروبه من البلاد.
ويفضل الفنان التشكيلي محاكمة رفعت الأسد داخل سوريا، مبررا ذلك بالقول: “إذا سُجن في سويسرا سيحظى بمعاملة فندق 7 نجوم”.
وفي نهاية حديثه، يقول الخاني إن “الطفل الناجي من مذبحة حماة منع قاتل والده من دخول سويسرا، وأجبره على الهرب من كل أوروبا، واليوم سيواصل البحث عنه. هذا الطفل يعد مثلا عن الشعب السوري الذي لا يستكين”.
واختتم بالقول: “يجب العمل بكل الوسائل القانونية لملاحقة المجرمين.. أنا أقدم مثالا أصعب بكثير، فلم يكن لدينا شيء وحاكمناه. ورسالتي للمجرمين: إياكم والطمأنينة، فأنتم ستحاكمون أينما كنتم”.