سيكون على مصطفى أبو شاقور (60 عاما)، الفائز في انتخابات رئاسة الوزراء في ليبيا، أن يواجه مرحلة يصفها المراقبون، بكونها الأصعب منذ انتصار ثورة 17 فبراير..
ليس فقط لكونها ستطوي ملفات النظام السابق بعد غلق الورشات القضائية والأمنية والسياسية المفتوحة، وإنما لأن حكومته مطالبة، خاصة بمواجهة تداعيات مقتل السفير الأمريكي لدى ليبيا وثلاثة من الدبلوماسيين الأمريكيين، في هجوم صاروخي في بنغازي.
أما في الأمد المتوسط، فسيتعيّـن على الحكومة الجديدة، تأمين الاستقرار والتنمية وفُـرص العمل الكريم لليبيين، الذين لم يتذوّقوا طعْم هذه النِّعمة، منذ أكثر من نصف قرن.
وعزا محللون هزيمة محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي (الحكومة الإنتقالية السابقة) بفارق صوتين أمام أبوشاقور، نائب رئيس الوزراء في حكومة الكيب (مهندس كان يعيش في المنفى)، إلى أن التيارات الإسلامية في البرلمان الانتقالي، تكتلت خلْف أبو شاقور، الورقة الثانية للإسلاميين، بعدما أظهرت الجولة الأولى، أنه أوفر حظا من عوض البرعصي، وزير الكهرباء في حكومة الكيب ومرشح الإخوان المسلمين لمنصب رئيس الوزراء.
ويُعتبر أبو شاقور، قريبا من “الجبهة الوطنية لتحرير ليبيا”، التي عارضت القذافي في ثمانينات القرن الماضي، وهي تسيْطر على عدد ضئيل من المقاعد في المؤتمر الوطني العام (البرلمان الانتقالي).
ولا يُخفي الإسلاميون، ممثَّـلين في حزب العدالة والبناء (الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين) وتنظيمات أخرى صغيرة، تفاؤلهم بأن فوزهم برئاسة الوزراء في ليبيا، سيمد جِـسرا بين تونس ومصر، حيث يحكم التيار نفسه، وصولا إلى المغرب، الذي تقوده حكومة “العدالة والتنمية”، وربما الجزائر في مرحلة ما بعد بوتفليقة… غير أن مقرّبين من جبريل قالوا لـ swissinfo.ch، إنه “رابح حتى بعدما خسر السِّباق إلى رئاسة الوزراء”، لأنه عانى من اضطهاد خصومه أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، ما سيجعله يبدو في صورة المظلوم والضحية، بعدما أخفق في الوصول إلى رئاسة الوزارة، واستطرادا سيجمع أوراقا أكثر لخوض معركة الرئاسة، في حال إقرار النظام الرئاسي لاحقا.
من جهة أخرى، أشار المدافعون عنه إلى تعرّضه لعدّة محاولات اغتيال كانت آخرها في الشهر الماضي على أيْدي جماعة أرسلها هانيبال معمر القذافي. أكثر من ذلك، أظهرت الجوْلتان الأولى والثانية من انتخابات رئيس الوزراء، أن خلْف جبريل نَـواة صلبة مُـؤلَّفة من ثمانين عضوا تؤيـد تياره الليبرالي، الذي استوعب عددا من الإسلاميين المستقلين، عِـلما أن منافسه أبو شاقور، أقر في تصريحات صحفية، أن مكونات “تحالف القوى الوطنية”، الذي يقوده جبريل، مسلمة مثل سائر الليبيين.
جماعات مسلحة منفَـلتة
يمكن القول أن المعضلة الأولى، التي ستواجه رئيس الوزراء المقبل، تتمثل في العُـقدة الأمنية بسبب بقاء جماعات مسلّحة مُنفلتة من القانون ومن أية قيود، وانتشار الأسلحة الخفيفة والثقيلة “بكميات مهولة”، على حد تعبير فوزي عبد العال، وزير الداخلية في الحكومة المنتهية ولايتها.
وظهر ذلك جليا، في استخدام صواريخ لقصف القنصلية الأمريكية في بنغازي، وقبل ذلك، الكشف عن وجود مائة دبّابة لدى إحدى القبائل وانتشار المدافع الثقيلة والمدرّعات لدى كثير من الجماعات المسلحة.
وعلى رغم تشكيل “اللجنة الأمنية العليا” من أجل تجميع الثوار في هيكل رسمي موحد، لم يزد عدد المُـنضوين تحت لوائها، عن خمسة آلاف عُـنصر في طرابلس، و110 آلاف في كامل البلاد، ما يعني أن آلافا أخرى ما زالت خارج السيطرة. هذا من دون احتساب 130 ألف شرطي ورثتها الثورة من نظام القذافي.
كما ضمت وزارة الدّفاع عددا من المجموعات المسلّحة تحت عنوان “دِرع ليبيا”، وهي توصف رسميا بكونها قوة احتياط، لكن عناصرها احتفظوا بكامل أسلحتهم، وهذا يعني أنهم جيش ضِمن الجيش النظامي.
ويُردّد كثير من الليبيين اليوم، أن الثوار الحقيقيين عادوا إلى أعمالهم أو دراستهم، وأن كتائب تشكّلت بعد انتصار الثورة، عندما ظهر ثوار لم يشاركوا في التحرير، مستغلِّين الفراغ الأمني، خاصة في العاصمة، لتشكيل كتائبهم الخاصة والفالتة من الرقابة.
ولا يخفي وزير الداخلية عبد العال شكوكه، بأن بعض هؤلاء يُهرِّبون الأسلحة من المخازن التي تركها نظام القذافي في المناطق النائية، إلى بلدان الجوار بكميات ضخمة. غير أن مراقبين شكّكوا بدورهم في تقديرات الوزير قائلين: “إنه يهوِّل الأمور لتغطية عجْزه”، وإن أقروا بوجود أسلحة كثيرة تعبث بها الأيادي. ويُشير هؤلاء المراقبون إلى أن “رأس الأفعى” تتحرّك بين مصر والجزائر وتونس، وهُم يقصدون أركان نظام القذافي، الذين استطاعوا أن يضمنوا اللجوء إلى دول الجوار لهَـز الاستقرار في ليبيا.
وبحسب عبد العال، “هناك مجموعات قيادية موجودة في البلدان الثلاثة ولديها غرفة عمليات في تونس”، وهي تستخدِم عناصر في الداخل لزعزعة الأمن، مستدِلا بأن المسؤول عن التفجير الذي تم يوم العيد في طرابلس، اعترف بأنه تلقّى التوجيهات من أنصار القذافي في الخارج. لكن عبد العال أكّد وجود “تنسيق في مستوى رفيع مع تونس وضعيف مع مصر” وسكت عن الجزائر، ما دلّ على أن التنسيق غائب تماما بين العاصمتيْن، أقلّه في المسائل الأمنية.
إلا أنه توقّع أن يتحسّن مع مصر، بعدما تسلّمت الحكومة المصرية الجديدة مهامّها. ويُرجّح أن الوعْد المُقدّم للقاهرة باستيعاب مليونيْ عامل من مصر في مشاريع ليبية، بالإضافة لبداية منْح شركات مصرية صفقات من الدولة الليبية، سيعجِّلان بتسليم رموز نظام القذافي المقيمين في ليبيا، خاصة بعد حجْز جوازاتهم أخيرا.
وفي هذا الاطار، تعاقدت يوم 8 الجاري شركات مصرية لمدّ خطوط الكهرباء نحو المُدن الليبية المختلفة، وإعادة هيكلة ما تم تدميره منها، بقيمة بلغت نحو مليار دولار أمريكي، “وهذا أول الغيث”، كما قالت مصادر ليبية لـ swissinfo.ch.
قائمة المطلوبين
أما عن الشخصيات التي تطلُـب ليبيا تسليمها إليها، فأفاد مصدر اطَّـلع على القائمة التي سُلِّـمت إلى القاهرة، أنها تضم أحمد قذاف الدم، الذي سجل باسمه عقارات كثيرة في مصر ليس أقلّها فندق شيراتون ومساحات شاسعة من المزارع، والتهامي خالد، مدير الأمن الداخلي والشخص الثالث في استخبارات القذافي بعد عبد الله السنوسي وموسى كوسا، وعلي الكيلاني، ابن عم القذافي الذي أدار إذاعة “الجماهيرية” طيلة عشرين عاما، وعبد الله منصور الذي تناوب على إدارة الإذاعة مع الكيلاني، ورمضان بوكراع، الذي كان يُـدير مؤسسة الكهرباء، والطيب الصافي، وهو من أسْـرة صفية، زوجة القذافي. ويُعتبر هؤلاء من المربّـع المضيَّـق الذي كان القذافي يعتمد عليه.
وفي هذا السياق، أكد خليفة عاشور، وكيل وزارة العدل لصحيفة “الوطن” الليبية، أن ليبيا ستتسلِـم قريباً مجموعة جديدة من الفارّين من مسؤولي نظام القذافي، وسيتم محاكمتهم محاكمة عادلة. أكثر من ذلك، لمح المصدر المطَّـلع، إلى أن القاهرة وعدت بإعادة الأموال المهرَّبة إلى مصر، ما أن تتشكل حكومة ليبية جديدة في طرابلس.
كما أفاد المصدر، أن ما بين سبعة آلاف وثمانية آلاف من عناصر النظام السابق، يوجدون حاليا في السجون، على رأسهم سيف الإسلام وعبد الله السنوسي والبغدادي المحمودي، رئيس آخر حكومة في عهد القذافي، وأبو زيد عمر دوردة، رئيس المخابرات الخارجية السابق. وعلى رغم المخاوف من أن تكون المحاكمات بعيدة عن العدالة والشفافية، رأى مراقبون أن محاكمة دوردة كانت “اختبارا” للسلطات الليبية، أظهرت أن ضمانات الدفاع كانت متوافِـرة، إذ كانت المحاكمة مفتوحة للإعلاميين، واستجاب القضاء لطلبات الدفاع الاطِّـلاع على الملف، كما قبل إرجاء الجلسة إلى تاريخ لاحق. مع ذلك، ما زال الغموض يلفّ قرار تأجيل محاكمة سيف الإسلام خمسة أشهر أخرى بدعوى انتظار حصيلة التحقيقات الجارية مع عبد الله السنوسي. لكن هذا قد يعني أن المحاكمة ستؤجَّـل مجددا، كلما اعتقل واحد من “الحيتان الكبيرة” المُقيمة في الخارج.
وكان ميلاد عبد النبي، منسق ملف سيف الإسلام بمكتب النائب العام، عزا تأجيل محاكمة سيف إلى “استكمال التحقيق مع عبد الله السنوسي، لاستيفاء بعض الحقائق المتعلِّـقة بذات القضية”، على حد قوله. أما مساعد المدعي العام في ليبيا طه بعارة، فأكَّـد أن عبد العاطي العبيدي، وزير الخارجية الأسبق ومحمد بلقاسم الزوي، الرئيس السابق لمؤتمر الشعب العام، سيمْـثُـلان في العاشر من سبتمبر أمام المحكمة، بتهمة جرائم مالية سبقت ثورة 17 فبراير، موضِّحاً أن الرجلين متَّهمان بارتكاب “جرائم مالية”.
السلفيون أو “البراهمات”
إلى جانب ملف الاستقرار الأمني ومحاكمة رموز النظام السابق، مع السّعي لاستعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج، يبدو التعاطي مع السلفِـيين تحديدا، هاجسا رئيسيا لأية حكومة مقبلة.
وعلى رغم أنهم يُـمثِّـلون أقليات في غالبية المدن الليبية، بالنظر لوسطية المجتمع الذي يُطلق عليهم اسم “البراهمات”، تحوّلت الظاهرة إلى مصدر قلق، بعدما تلقَّـت الدعم من رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل، الذي رأى فيها في البداية حاجِـزا ضد العِـلمانيين والليبراليين.
كما أن عبد الحكيم بلحاج، الذي يقود إحدى المجموعات المسلحة في طرابلس، ساعدهم لدى تحرير العاصمة، على السيطرة على بعض المواقع وغطّى بعض نشاطاتهم، ومنها تزويج الشبان (إذ كانت عناصر الجماعات السلفية تزوِّج أي فتىً يُعثر عليه مع فتاة في الشارع)، إلا أن تلك الجماعات بدأت الآن تستهدِف “الإخوان” في ليبيا، وشنّ عناصرها مؤخرا هجوما على مقر المؤتمر الوطني العام، ما جعل أغلبية الأعضاء يطلبون من الحكومة في لهجة حازمة وغير مألوفة، “استعمال القوة، لبسط سيادة الدولة على كامل التراب الليبي، وكذلك لردْع أية محاولات تهدِّد الأمن الوطني”.
كما أصدر البرلمان قرارا بتجريم العديد من الممارسات “التي صدرت عن بعض الجهات، بعد انتصار ثورة السابع عشر من فبراير، ومنها اختطاف المواطنين وتقييد حريتهم أو إقامة نِقاط تفتيش خارج سلطة الدولة وممارسة التعذيب والمعاملة غيْر الإنسانية للمواطنين، وتجريم حماية المطلوبين للعدالة أو التستُّـر عليهم وتجريم الإستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة، وكذلك تجريم هدْم الأضرحة خارج إطار الدولة والإعتداء على المعالِم الأثرية”، وهي إشارة صريحة للسَّلفيين، الذين أتى كثيرٌ منهم من أفغانستان وباكستان.
خطّة للتنمية؟
لا ينبغي أن تُخفي شجرة المحاكمات والجماعات عن الحكومة الجديدة، غابة المهام التنموية الكبيرة، في بلد مترامي الأطراف يحتاج للانطِلاق من الصِّفر، بعدما أهدر القذافي مقدراته طيلة أربعة عقود وبدّدها في قارات العالم، وخاصة في إفريقيا. وتؤكّد الحكومة المُنتهية ولايتها، على لسان بوشاقور، أنها تركت 4000 مشروع للحكومة المقبلة، ما يعني أنها وفَّـرت عليها وقتا ثمينا، كي تمضي إلى التنفيذ وتقدِّم نتائج سريعة. وقدّر خبراء اقتصاديون عوائد صادرات النفط الليبية خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، بثلاثين مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 5%، مقارنة بالتوقعات.
أما الدخل المتوقّع للصادرات النفطية الاجمالية هذه السنة، فيُمكن أن يصل إلى 55 مليار دولار، أي أن ميزانية صندوق تنمية إفريقيا (الذي كان يديره بشير صالح، السكرتير الخاص للقذافي)، والبالغة 5 مليارات دولار، على سبيل المثال، تشكل 10% من مداخيل البلاد، وهو ما جعل كثيرا من الليبيين يؤكِّـدون اليوم أن بلدهم ليس بحاجة إلى استثمارات في الخارج، وخاصة من النوع الذي كان يُهدر في شراء محطّات وقود متهالكة أو مصافي نفط خاسرة، ليس فقط في إفريقيا، بل أيضا في أوروبا. وفي هذا الإطار، تُقدّر القيمة الإجمالية للموجودات الليبية في الخارج، بنحو 170 مليار دولار، أي ما يعادل عائدات ليبيا من النفط والغاز لثلاث سنوات، وهو ما يُرتب على الحكومة المقبلة أن تعالج هذا الملف بسرعة لاستعادة الأموال المُـهرَّبة.
ويُقدر بوشاقور، نائب رئيس الوزراء في الحكومة المنتهية ولايتها، ما يملكه مصرف ليبيا المركزي من أموال مجمدة في الخارج بـ 90 مليار دولار. وقال، إن حكومة الكيب نجحت في رفْـع التجميد عن ثلثها، بينما لا زالت 60 مليارا مجمدة “بطلب منا”. وهذا يعني، أن الحكومة المقبلة ينبغي أن تدرس هذا الملف وتتّـخذ في شأنه قرارا يُعيد ترتيب الأولويات، مع التركيز على مشاريع التنمية في الداخل. وإذا ما علمنا أن الفائض المحقّـق في موازنة 2010، أي قبل الثورة، بلغ 16 مليار دينار ليبي (12 مليار دولار)، نُـدرك أن مشاريع التنمية كانت ضئيلة وطغى عليها الفساد.
وبحسب بوشاقور، يُخيِّـم الفساد على 60% من العقو،د التي وقعها النظام السابق والمقدرة بـ 10800 عقدا، وكان معظمها مع تركيا وبريطانيا والبرازيل والهند والصين. وسيتعين على الحكومة المقبلة أيضا، الدخول في مفاوضات جديدة، قد تصل إلى مواجهة مع شركات نفطية عالمية، في مقدِّمتها، مجموعة “إيني” الإيطالية، بعدما منحها القذافي عقودا وامتيازات تستمِـر إلى 2047.
دولة ثرية وشعب فقير
وعلى رغم ثراء الدولة، فالشعب الليبي ما زال فقيرا، إذ لا يتجاوز دخل الفرد السنوي في البلد، بحسب تقارير دولية، 13800 دولارا، ما جعل ليبيا تحل في المرتبة الثالثة والثمانين عالميا، متأخرة عن الغابون ولبنان وكرواتيا. ويبلغ راتب العامل في ليبيا اليوم 320 دولارا، بينما لا يتجاوز راتب المدِّرس 360 دولارا شهريا، في ظل غلاء فاحش، ما يتطلَّـب من الحكومة المقبلة درْس طُـرق رفع مستوى الرواتب، كي يستفيد الليبيون من ثروة بلدهم ويعيشون في رفاهية.
كما يطرح هذا الأمر، ضرورة وضع استراتيجيا تنموية للمستقبل، تُوظف ما تبقى من احتياطي نفطي وغازي، لخِدمة الأجيال المقبلة. وتملك ليبيا أكبر احتياطي من النفط في إفريقيا، إذ يُقدَّر مخزونها بـ47 مليار برميل (تحتل المرتبة التاسعة عالميا)، تم استخراج 29 مليار برميل منه، والباقي، لا يمثل سوى 38% من المخزون.
وبعدما ضاعت أربعة عقود ونيف، لم يستفد خلالها الليبيون من ثرواتهم، بات لِـزاما على أية حكومة في المستقبل، أيا كان لونها، أن تعمل ليومها وتخطِّط لمستقبل ليبيا في آن معا.
رشيد خشانة- الدوحة