(إلى نور)
هذه المرة الأولى أعبر فيها المحيط الاطلسي. الرحلة الى مونتريال خاصة: الاجراءات والتفتيش استثنائيان، مسافة 12 ساعة في الجو، ووجوه المسافرين غير المألوفة بين متحمّسين للهجرة ومتهيّبينها؛ او مجرّد، دائما «مجرّد»… زائرين. بوسعك التمييز بين الزائر(ة) والمهاجر(ة). وللخطأ احتمال ضئيل. نساء عجائز على مقاعد متحركة. واخريات في عمر الكهولة. ارامل ربما. أو في «زيارة» إستشفاء على الارجح. أو «زيارة» للأبناء او البنات ممن يوشكون ان يولدوا. وعائلات قبطية «مهاجرة»؛ واضح ذلك على ملامح افرادها وهندامهم وثقتهم بأنفهسم. وقليل من الشباب غير المتردّد يعملون او يدرسون.
«هجرة» أم «زيارة»؟ سؤال يلحّ من مطار القاهرة وحتى خروجك من مطار مونتريال. تطرحه في سرّك عن الباقين. وعلانية اذا حصل كلام. ويُطرح عليك عند كل نقطة تدقيق فيه، او توقيع جواز: «زائرة؟ أم مهاجرة»؟ وجوابك تصدّقه السلطات الكندية. وغالباً بلا تدقيق.
ثم لا تلبث ان تحطّ في المدينة، حتى الطبيعة محدّد دقيق لمزاجك وبرامجك. مزاجية الطبيعة، الطبيعة «السُويعاتية». في كل لحظة وساعة يمكن ان تنقلب هذه الطبيعة. تلحّ عليك بمزاجها. حرّ ورطوبة شديدة. رياح أو غيوم بخارية تنبعث من نهر القديس لورانت وبحيرته. شمس حارقة وقريبة من القطب المتجمد الشمالي. الطبيعة طاغية بفتنتها ايضا. الوانها فسيحة. متعة بالغة للنظر. اما يد الانسان فيها فبيوت وكاتدرائيات واديرة ومبانٍ من ايام النهضة، أعيد ترميمها؛ ومنازل اخرى من ازمنة تلتْها. كلها تطمئن الى مناعة المدينة من غزوات ناطحات السحاب، الجاثمة في وسطها. شيء من بيروت هناك؛ او شيء مما كان يمكن ان تكونه بيروت. بمياهها وتلالها القريبة، وطلعاتها وانحناءاتها. ليس لكثرة لبنانييها فحسب. بل لتشابه تكوينهما، بيروت ومونتريال. يد الله ويد الانسان
مونتريال مدينة لا تزاحم بحداثتها. عصريتها اوروبية. عريقة ومتنوعة. الشعوب التي تستقبلها كل سنة وتجنّسها تضيف الى مشهدها الوانا من الوجوه والقامات. لكن الشتاء! الشتاء الفظيع الذي لا يُعرف. في الشتاء يقولون، تصبح السماء وحدها مصدر الالوان، بعدما يثقل بياض الثلج على ارجاء الارض». ولكن عواصف الثلج المتتالية تسمّرك في بيتك»؛ هكذا يرد المونترياليون على إستحسانك رحابة مدينتهم. قسوة الشتاء، تقول عنه مهاجرة قديمة: «لولاه! لولا قسوة الشتاء… لما كانت كندا بكل هذا الكرم تجاه مهاجريها. تمْتحنهم لثلاثة فصول شتوية متتالية، ثم تمنحهم الجنسية!».
ومونتريال مدينة الهويات بلا منازع. امام كل شخص، تسأل نفسك تلقائيا عن جنسيته «الاصلية». «من اي بلد؟»، واذا حصل كلام، يكون السؤال بلا حرج. غالبية جنسيات الدنيا التي يعاني ابناؤها شيئا ما تهاجر الى كندا. وجدت «كوبلاً» صينياً هاربا من تحديد النسل بولد واحد، المتّبع في بلاده. طبعا النسبة الاكبر من المصابين بهذا «الشيء ما» من معذّبي العالم الذي ما زال ثالثاً. ولأن معظم هذا «الشيء» نتيجة حروب وصراعات لم تهدأ، فلكل جنسية ايضا حقبات هجرة؛ بل اجيال وطبقات وطوائف مختلفة من مهاجري البلد الواحد بحيث تتشكل لوحة عارمة بالتعدد؛ اين منها تعدّدنا اللبناني. وبما ان عصرنا عصر التنافر بقدر الالتقاء، فهذا التنوع ينطوي على حشد من الحساسيات والتصورات المسبقة لكل اثنية تجاه الاخرى. وهذا معطوف على التعاون-التنافر الكندي التقليدي بين أوتاوا الانغلوفونية والكبيك الفرنكوفونية. كل هذه الطاقات السلبية تديرها الدولة وتدبّرها: بحرية التعبير الاعلامي والفني والثقافي اولاً بما يحاكي ابداعات هذه الاثنيات وطاقاتها الايجابية. وبالقانون ثانيا، وتنفيذه بلطف بالغ وصرامة بالغة، ما يردع هذا التنوّع عن تجاوز عنفه اللفظي.
مفارقة كبيرة. ان الانغلو-فرنسيين الذين اسسوا كندا منذ 400 عام؛ فطردوا سكانها الهنود الاصليين وارتكبوا بحقهم المجازر والمطاردات والمصادرات، ها هم احفادهم اليوم يحتضنون الباحثين عن الامن والسلام من قارات اخرى!
والمفارقة المرتبطة بها: ان كل الحرَفيات والاشغال الفولكلورية والسياحية، والكتب الاستكشافية والانثروبولوجية، كلها تنهل من الإرث الهندي شبه المُباد. كندا المعاصرة اعتذرت للهنود عن المآسي التي حلّت بهم على يد أجدادها. واعطت للمتبقّين نوعا من الحكم الذاتي تحول اليوم الى غيتو لا يقترب منه القانون، او لا يتجرأ على ذلك.
أمرٌ آخر طاغِ على مونتريال. الاستهلاك. فعل الشراء يساوي فعل الصلاة جدية. يبتلعك باغراءات لا تنضب. شراء الثياب وكل ما يلزم الهندام، «اللوك». اكبر الاغراءات. اكثر الشخصيات حضورا عند زائر مونتريال والمقيم فيها الكاشير(ة)، الذي يخلّصك من زحمة الدفع المتواصلة. اما الطعام، فبلا وقت محدد ولا مكان ولا سعر. سهولة الحصول عليه مذهلة. في كل لحظة، أينما مررت… انت مضطر لغض الطرف وسدّ الانف كي لا تقع فريسة روائح تسيّل اللُعاب. لتعود فتشاهد اعلانات النحافة وواجهات المحلات ومتاجر ادوية التنحيف. وهي ليست اقل إلحاحا من مشهيات الطعام؛ ورسالتها على نقيضها. فالحلقة الجهنّمية معروفة: تتعرض لإغراءات الطعام المفرط. والمطلوب في الآن عينه ان تكون زاهداً به وبالدنيا!
لا بد ان تقارن «بيننا» و»بينهم». بين العيش هنا والعيش في ديارك. والفارق مثل ذاك القائم بين الارض والسماء. اللبنانيون الذين يتذمّرون من المدينة يستطيعون ان يلتقطوا شوائبها؛ فلا مكان من دون عيوب. لكنهم لا يمكنهم ان يقارنوا من غير ان يلاحظوا درجات النظافة والبيئة والقانون الخ. لا مجال للمقارنة.
شيء آخر يلفت لدى المهاجرين العرب والمسلمين: انهم كأفراد منخرطون في صراع الحضارات الكبير دون ان يكونوا بالضرورة اصوليين، او واعين بانخراطهم هذا. بينهم وبين ثقافة الغرب عداوة مسبقة ومستحكمة: وصمات العار المتبادلة بين الشرق والغرب. وهم يعبّرون عنها بالمزيد من التأكيد على هويتهم الأم. مضامين هذا التأكيد وطرقه يشوبها إرتباك وعنف وتشوّش. فيفوّتون بذلك على انفسهم فرصة بناء هوية كندية موازية. هوية لمكانهم وزمانهم الجديدَين.
أخيراً: «عطر غبار». رواية للكندي من اصل لبناني، راوي الحاج. تحكي عن الحرب التي هرب منها وهو طفل. الرواية نالت أهم الجوائزالادبية الكندية الفرنكوفونية: جائزة «غيلر».
dalal.elbizri@gmail.com
• كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة
مونتريال هوية مكان ومكان هويات
مقال في غاية الروعة انا اعشق المقالات واعشق كندا ايضا .
كندا فعلا جنة ويجب ان نعرف كيف نعيش في هذه الجنة,ويجب ان نعرف كيف نعيش سعادتنا مع من نحب في هذه البلد المحبة
مونتريال هوية مكان ومكان هويات
مقال متميز ورائع. ان كندا جنة الله في الارض. يحكمها القانون اي الديمقراطية واحترام الانسان. والجيل الجديد يبني كندا على اساس اللاعنف واحترام الاخرين ولا وجود للمليشيات ولا للمافيات المخابراتية وتحوي كندا جميع المذاهب والطوائف والاعراق والكل كندي يحب كندا ويعشقها ولو فتح الباب للعالم الثالث وخاصة العربي الشمولي لهاجر كله واصبح بدون شعوب وبقيت في البلاد العربية مافيات تقتل بعضها البعض.