لا حاجة الى اضاعة كثير من الوقت لمعرفة لماذا قرر فلاديمير بوتين الذهاب بعيدا في اخضاع أوكرانيا عن طريق احتلال جزء من أراضيها المتمثلة في منطقة القرم. كان بوتين يدافع في الواقع عن عرشه في موسكو. لو سقط بوتين في كييف، لكان سقط في موسكو. لذلك لجأ الرئيس الروسي الى القوة العسكرية غير آبه بالتهديدات الاوروبية والأميركية. لو لم يتحرّك عسكريا في القرم، لكان خرج من موسكو بالطريقة التي خرج بها من السلطة رجله في كييف فيكتور يانوكوفيتش.
لم يكن في استطاعة بوتين التراجع بعدما رفض قبول أن تكون روسيا دولة طبيعية. فأيّ تراجع أمام التحدي الذي تمثله الرغبة الجامحة لدى الاوكرانيين في الاتجاه أوروبيا كان يعني في طبيعة الحال انكفاء روسيا على نفسها واضطرارها الى التعاطي مع المشاكل التي يعاني منها شعبها واقتصادها.
أقام بوتين نظاما روسيا على الطريقة السوفياتية. قرّر أن يكون قيصرا جديدا في الكرملين، على غرار ما كان عليه قياصرة الحزب الشيوعي. لم يستوعب لماذا ليس في استطاعة روسيا أن تكون قوة عظمى لمجرّد أنها تمتلك السلاح النووي. السلاح النووي ليس كافيا لبناء قوة عظمى.
لو كان هذا السلاح كافيا لتحقيق هذا الغرض، لكان الاتحاد السوفياتي لا يزال حيّا يرزق…ولكانت باكستان تستطيع لعب دور على الصعيد العالمي غير دور الحديقة الخلفية لـ”طالبان” في أفغانستان وداخل باكستان نفسها. لا يمكن للسلاح النووي بناء قوة عظمى. يمكن ان يستخدم للتهديد والابتزاز. ما يبنى قوة عظمى هو المعطيات الاقتصادية قبل أي شيء آخر. قد تكون الصين الصاعدة أفضل مثل على ذلك.
يستطيع فلاديمير بوتين تقسيم أوكرانيا واعادة شبه جزيرة القرم أرضا روسية. تستطيع موسكو استعادة الهدية التي سبق لها أن قدمتها الى أوكرانيا. في الواقع، كانت القرم ارضا روسية قبل أن يلحقها نيكيتا خروشوف الامين العام للحزب الشيوعي السوفياتي بأوكرانيا في الخمسينات من القرن الماضي. كان خروشوف أمينا عاما للحزب الشيوعي الاوكراني قبل خلافته ستالين الذي توفى في العام 1953. أراد تقديم هدية الى أوكرانيا التي كانت جمهورية سوفياتية. كانت شبه جزيرة القرم بمثابة الهدية لجمهورية سوفياتية كانت حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي جزءا لا يتجزّأ من القوة العظمى الثانية في العالم.
تعتبر شبه الجزيرة تلك في غاية الاهمّية للأمن الروسي نظرا الى أنها تضمّ الموانئ المطلة على البحر الأسود التي يرسو فيها الاسطول الروسي. من دون هذه الموانئ لا تعود فائدة تذكر من الاسطول الروسي الذي سيتوجب عليه الانطواء في اتجاه موانئ أخرى تتجمّد فيها المياه ستة أشهر في السنة. القرم تعني أوّل ما تعني الميناء الدافئة التي تسمح للاسطول الروسي بالتحرّك في كل الاتجاهات، خصوصا في اتجاه البحر المتوسط.
يمارس فلاديمير بوتين مع أوكرانيا سياسة “السيادة المحدودة” التي سبق للاتحاد السوفياتي أن مارسها مع دول أوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان زعماء الحزب الشيوعي السوفياتي الذين أقاموا في الكرملين يعتقدون أنّ اتفاق يالطا يسمح لهم بالتدخل عسكريا من أجل الابقاء على أنظمة تابعة في رومانيا والمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وهنغاريا.
اجتاحت الدبابات السوفياتية بودابست في العام 1956 واجتاحت براغ في 1968. بعد تحرّر هذه الدول اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، يظنّ زعيم الكرملين الجديد أنه مسموح له بممارسة هذه السياسة في الدول التي لديها حدود مشتركة مع روسيا.
هل يسكت العالم عن الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم؟ الاكيد أن التركيبة السكانية لتلك المنطقة تخدم التوجّه الروسي، كذلك هناك ادراك في موسكو بأن سقوط كييف نهائيا وقيام نظام معاد فيها لروسيا سيعني أن الربيع الاوكراني سينتقل الى روسيا نفسها.
لم يفشل بوتين في أوكرانيا فقط حيث تولى حماية نظام برئاسة فيكتور يانوكوفيتش، أقلّ ما يمكن أن يوصف به بأنه مافياوي. فشل قبل ذلك في موسكو وفي كل مدينة ومنطقة روسية. فشل في اقامة نظام ديموقراطي يعني أول ما يعني التبادل السلمي للسلطة وقضاء حرّا ومؤسسات اقتصادية تخدم طموحات الشعب الروسي وتوقه الى حياة أفضل. سيطر مع التابعين له على مقدرات الاقتصاد وعلى الثروات الروسية.
لا يشبه النظام الذي أقامه بوتين في روسيا سوى النظام الايراني. البلدان لا يمتلكان اقتصادا قابلا للحياة وكلّ اتكالهما على النفط والغاز وعلى الهروب المستمرّ الى خارج. ايران تهرب الى العراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين والخليج عموما، وروسيا تهرب الى حيث تستطيع الهروب. هربت الى سوريا حيث تدعم بالسلاح والفيتو نظاما يذبح شعبه، وها هي الآن تهرب الى أوكرانيا بدل ايجاد طريقة للتعاطي معها بطريقة مختلفة تأخذ في الاعتبار رغبة الاكثرية الساحقة للشعب الاوكراني في الحرّية والتقرّب من أوروبا.
حسنا، يمكن ان تستمر هذه اللعبة الروسية بعض الوقت. أقدم بوتين في نهاية المطاف على مغامرة محسوبة. انه يعرف تماما أن هناك ادارة أميركية على رأسها باراك أوباما لا تفكّر الّا في كيفية تفادي أي مواجهة جدّية في أي مكان من العالم. هناك ادارة أميركية ضعيفة لا تشبه الا ادارة جيمي كارتر في أواخر السعينات من القرن الماضي. ولكن الى متى ستظّل الادارة في واشنطن تعطي الاولوية للهرب من الازمات العالمية؟
يمكن للقيصر الروسي الجديد تحقيق نجاح موقت. ولكن في نهاية المطاف، وحتى لو استطاع تقسيم أوكرانيا وفرض السيطرة المباشرة على شبه جزيرة القرم، لن يغنيه ذلك عن ضرورة العودة الى الداخل… الى مشاكل المواطن الروسي الذي يعرف أن أي نظام، مهما امتلك من الصواريخ والقنابل النووية، لا يمكن أن يكون قابلا للحياة من دون اقتصاد قوي وحياة سياسية تستند الى حدّ أدنى من الاسس الديموقراطية.
سقط الاتحاد السوفياتي لانه كان نمرا من ورق. كان الاسطول السوفياتي يمتلك قاعدة في عدن. هل ساعده ذلك في شيء في المدى الطويل؟ انه الدرس الذي ينساه فلاديمير بوتين يوميا.