نشر موقع (نداء سوريا – http://www.nidaasyria.org) لإعلان دمشق في الخارج، وعدد من المواقع الأخرى، مقالا للأخ كامل عباس تحت عنوان :(القمع المعمم في سوريا ضّيع مثقفا بحجم عبد الرزاق عيد) يعقب فيه على مقالنا “هوامش على انعقاد المجلس الوطني في المهجر” المنشور في ذات المصدر (نداء سوريا) ومواقع أخرى (سوريون نت – وشفاف الشرق الأوسط)… والسيد كامل فيما أعلم أحد محابيس سوريا (المدمنين) كما شاء أن يعبر عن حالة الإدمان السياسية في سوريا..
المقال يعكس شعورا وطنيا صادقا مكلوما كمألوف كتاباته لهواجسه السياسية التي يصدر فيها عن إحساس مأساوي بوصفه واحدا من مئات المعتقلين الذين قضوا زهرة شبابهم في السجون والمعتقلات السورية في زمن سوريا الحديثة، أو (سوريا الأسد) على حد تعبير السيد حسن نصرالله…
مقال السيد كامل طرح مجموعة من التساؤلات عليّ وعلى القراء، ونظرا لاحترامي لمناقبية الرجل، وجدت أن من واجبي أن أجيب على هذه التساؤلات كوني معنيا بها، سيما وهو الذي عهدته صادقا نزيها يسكن كتابته شعور عميق بالمأساة الوطنية لسوريا…
يعتقد المقال أن “الخطاب السياسي للدكتور عيد وقع في رد الفعل، والفعل الأساسي هو سلوك الأجهزة الأمنية مع شخص موهوب، ولديه إمكانيات كبيرة…ويحمل شهادة الدكتوراه بالأدب..لكنه ممنوع من العمل في سوريا، حتى ولو كان العمل بائع حليب في حيه…”
طبعا لا يمكن إلا وأن نقدر مشاعر التضامن المعبر عنها نحونا، وهي مشاعر من يعيش ذات التجربة : تجربة العزل الحقوقي الاجتماعي والسياسي بوصفها مأساة يعيشها كل المعتقلين السياسيين السابقين، من المحافظين على كرامتهم وشرفهم الفردي والاجتماعي، وهم الأغلبية المطلقة في كل الأحوال، وتلك مفخرة للوطنية السورية وتعزيز لمعناها…
رغم تقديري وشكري لتضامنيته… لكني لا أوافقه على أن كتابتي “وقعت في رد الفعل” على سلوك الأجهزة الأمنية، وإن كان هذا-أي رد الفعل- أمرا مشروعا بل وضروريا وطنيا ومجتمعيا وشعبيا، لكي لا تتعطل الجملة العصبية والحسية للمجتمع نحو قهره وإذلاله اليومي..
لكن موضوع خيارنا النهائي في صيغة تعريف (الوطنية بالمواطنة)، في تعينها بالدولة الحديثة : دولة الحق والقانون والشرعية الوطنية الدستورية وعالمية حقوق الإنسان، كانت (ردة فعل وردة عقل)، يعود إلى منتصف الثمانينات، في سياق كوني مع تقوض النظام الشمولي العالمي في سياق ما كتبناه عن ضرورة (البيريسترويكا عربيا)، حيث أصدرنا في ذلك الحين كتابا نقديا للتجربة الذاتية والسياسية، تحت عنوان “نحن والبيريسترويكا” وقد كلفتنا هذه الكتابات حينها الفصل من الحزب الشيوعي الرسمي الجبهوي ولسنا آسفين على ذلك…
كان ذلك مقدمة لانتقالنا إلى مواقع المعارضة الديموقراطية… مما يعني أن موقفنا المعارض للنظام القمعي في سوريا، كان مؤسسا على انقلاب في المنظومة المعرفية – السياسية قبل أن يمنعوني من بيع الحليب واللبن…!!
إذ كان –منعنا بيع الحليب – تتويجا لانتقالنا النهائي إلى صفوف جبهة المعركة من أجل الديموقراطية ضد الاستبداد، وأولوية الحريات السياسية بوصفها ليست ضرورة مجتمعية وتنموية وثقافية، بل هي ضرورة وطنية تحررية وتحريرية، وذلك إذا كان ثمة إرادة جدية حقيقية لتحرير الجولان…لأنا بتنا نعتقد بعد التجارب المريرة والمكلفة للفرد والأمة، أن الاستبداد يتعارض تعريفا مع الحرية، ليس الحرية السياسية فحسب بل والحرية الوطنية، أو ما يسمى النضال في سبيل التحرر الوطني، وهذا ما يفسر لنا الإخفاق المدوي لحركات التحرر التي انتهجت المسار الشمولي في مرحلة ما بعد الاستقلال، ومن ثم عبثية الدماء التي هدرتها الشعوب على طريق تحررها، بعد أن تمت عملية إعادة احتلالها داخليا، أهليا بشراسة وعدوانية ونهب وفساد أشد من عدوانية ونهب المستعمر…
أي لا يمكن تحرير أراضي الأوطان في ظل هيمنة وقيادة الطغيان، لأنه ببساطة شديدة سيحيل الطغيان دون الشعب وممارسة دوره في الحرية والتحرر…وهذا الموضوع سيكون عنوانا لمقالات وكتب كثيرة أنتجناها خلال العشر سنوات الأخيرة : تحت عناوين كثيرة : (الطغيان بوابة احتلال الأوطان… لا تحرر وطني بدون تحرر سياسي… الاستبداد يعبد الطريق للاستعباد..لا وطنية مع العبودية…الاستبداد مدخل تمهيدي لاحتلال البلاد… الخ
يستند مقال الصديق المعقب على مقالنا في توصيف وقوعنا في (ردة الفعل)، باقتطاعه عددا من الشواهد من مقالنا (هوامش على انعقاد المجلس الوطني في المهجر) (مثل : حتى وصلوا بسوريا لاستقطاب ثنائي حاد : لتكون ثنائية : سلطة/ورعايا -وثنا وعبيدا – عصابة/ورهائن، فقوضوا كل المكتسبات المدنية: الحقوقية والسياسية والإدارية….) أو قوله (إنه عصارة سوريا المعنى المنتهك على مدى خمسة عقود، المعنى الذي لم تفسده الفهاهة والرثاثة والرياء والنفاق والتدليس وروح العبودية….). والأمر تعدى رد الفعل الواضح في لغته السياسية، ليصل برأي بعضهم إلى العزف على الوتر الطائفي أنا أسال الأستاذ عيد عن هذه الفقرة وأتمنى أن يوضحها لي:
((لن نتحدث عن تاريخ هذه الحرب فيما يسمى بفتنة الثمانينات التي تم استثمارها لخوض حرب إبادة ضد السياسة باسم الحرب ضد مجموعة عشرات منشقة عن الأخوان المسلمين فيما سمي بالطليعة المقاتلة، حيث تم تتويج سوريا منذ لحظتها بوصفها مملكة أمنية للصمت ولثقافة الخوف))
ثم يتساءل إن كان ما جرى فتنة أو مؤامرة أم أن ما جرى كان إرهابا (لجهاديين إسلاميين سبق الإرهاب الحالي الذي تقوم به القاعدة.. انتهى نص التعقيب، لنتساءل:
هل فعلا الحديث عن ثنائيات : سلطة – رعايا – وثنا وعبيدا –عصابة ورهائن..هو رد فعل؟
إن كل ثنائية من هذه الثنائيات تستدعي بحثا تحليليا كاملا للكشف عن بداهاتها العيانية…
لنتساءل عن صحة الثنائية الأولى (سلطة ورعايا): هل بلغ المجتمع السوري في درجة تجريده من كل مقوماته المجتمعية: الحقوقية والقانونية والقضائية وشبكات الأمان الاجتماعية المدينية التمثيلية من خلال الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنتديات بل وشبكات حمايته الأهلية من خلال التضامنية العائلية، أو دور وجهاء الأحياء وكبرائهم الذين ينتجهم المجتمع الأهلي بالانتخاب الطبيعي…نقول هل بلغ في تاريخه من التجريد الاجتماعي والنزع الحقوقي والامتهان القانوني والقضائي ما بلغه اليوم، حيث بلغ هذا التجريد حد سقوط أي قيمة اعتبارية أو معنوية للفرد خارج مؤسسة السلطة (الحزبية والأمنية)…!!!.
إذن هل سبق للمجتمع السوري أن يهبط إلى هذه الدرجة في انحلاله وتفككه الاجتماعي والثقافي والوجداني من مجتمع مواطنة مدني إلى مجتمع رعية ورعايا –حتى ما قبل أهلي- من قبل مثلما هو عليه اليوم ؟ مما سيستدعي بالضرورة في مقابل هذا الانحلال والتفكك نهوض سلطة متغّولة إلى هذا الحد.. أما عن الوثنية والعبيد استتباعا لما سبق….هل حدث في تاريخ سوريا أن تمت عملية تقديس للحاكم فيما يتداول تحت اسم (عبادة الفرد) كما حصل في صيغة (توثين حافظ أسد) حيث تمتلئ سوريا وساحاتها وشوارعها بل وطرق سفرها بأوثانه التي حلت محل الحزب والدولة…وعندما يكون الحاكم وثنا فمحكوموه بالتعريف هم عبيد…!!! هل هذه ردة فعل، أم هي فعل ملء العين والأذن والإحساس؟؟؟!
هل هناك في كل بلدان العالم نظام سياسي يتعامل مع مجتمعه الوطني: (سوريا)، والقومي: لبنان وفلسطين العراق بوصف استقرار وأمن هذه المجتمعات رهينة تفاوض النظام مع العالم على البقاء…؟ إما بقاؤه واستقراره في سلطة الحكم، أو بقاء هذه المجتمعات وبقاء أمنها واستقرارها…؟ تماما كما كان يهدد رفيقهم صدام حسين: إما هو أو خراب العراق.. هذه توصيفات موضوعية وليست ردة فعل…
أما وصف إعلان دمشق بأنه عصارة سوريا المعنى المنتهك…فهو يأتي كمحصلة ضرورية لعملية التقويض الكلي الذي شهده المجتمع فكان إعلان دمشق بمثابة جماع شرائح وتيارات ومكونات مجتمعية، هي خلاصة ما تبقى لسوريا من ذاكرة المجتمع المدني الذي –توافقنا كمعارضة ديموقراطية- في أن نموذجه الأمثل كان في صورة الحكم الوطني الديموقراطي ذي الشرعية الدستورية في الخمسينات…
ونعود بالأخير للتساؤل الرئيسي للتعقيب حول ما جرى في سوريا في بداية الثمانينات إن كان فتنة أم مؤامرة أم إرهابا، وعما سماه بعضهم العزف على الوتر الطائف!!!
المواجهة بين النظام والإسلاميين ليس –في رأيي -مؤامرة، لأني لا أومن بنظرية المؤامرة، وليس إرهابا، لأن الأخوان المسلمين إن كانوا هم قاد هذه المواجهة أم فصيل منهم، فإنهم –عموما- لا يوصفون حتى اليوم بالأدب السياسي العالمي بالإرهاب…إذن فتوصيفنا هذا ليس فيه عزف على وتر الطائفية… بل هم يشاركون في عديد من الدول العربية بالانتخابات التشريعية، وكان لهم تاريخ مشاركة سلمية في تاريخ البرلمان السوري في الزمن البرلماني…بل هم اليوم حليف النظام السوري من خلال المؤتمرات القومية والإسلامية، وحماس هي فصيل إخواني، والشيخ القرضاوي لا يزال إلى اليوم هو الأب الروحي للحركات الإخوانية…وهو صديق مرحب به لدى السلطات السورية…والأخوان السوريون اليوم يقدمون أنفسهم اليوم كحلفاء يجمعهم هدف مشترك مع النظام يستدعي “توحيد الجهود ” على حد تعبيرهم عندما علقوا معارضتهم بعد غزة، فهم إذن اليوم أقرب إلى النظام منهم إلى المعارضة أو لي شخصيا لأحابيهم بالعزف على الوتر الطائفي كما يريد إعلام النظام أن يشيع…
إذن فالأخوان: لا سوريا ولا عربيا ولا إسلاميا ولا دوليا، مصنفون في خانة الإرهاب، بل تنظيمهم العالمي يعتمد اليوم النضال السلمي ومرجعية صندوق الاقتراع، وهو داعم للنظام السوري بوصفه نظاما مقاوما، بل ولا يحرجه طائفيا أن يقف خلف قيادة الولي الفقيه لإيران…
إذن لماذا أعتبرها فتنة ؟ لأنها ظلت دون الحرب الأهلية – فلم تتمكن الطليعة المقاتلة الإخوانية، كما ولم تتمكن أطراف انتقامية في السلطة أن تزج المجتمع في حرب أهلية طائفية…فبقيت المسألة في حدود الفتنة…ومن هنا يأتي التقدير بأن النظام اعتمد (الإفراط في استخدام العنف)، ضد مجموعات (ميليشية) مهما كان تقدير حجمها، فهي لم تتمكن من جرّ شرائح اجتماعية كبرى لصفوف معركتها، لقد قرأت تقارير حينها عندما كنت في باريس…لو أن للإسلاميين 500 مقاتل في حلب، لاحتلوها بعد أن فرغت من قوى النظام العسكرية والأمنية والحزبية…المهزومة بلا قتال…فالمعركة فعلا كانت مع مجموعات إذن…ولهذا لا معنى للعقاب الوحشي الذي تعرضت له هذه الشرائح الاجتماعية المدينية الكبرى التي لم تتمكن الميليشيات من إدراجها في معركتها، سوى معنى العقاب الجماعي للمجتمع من أجل استئصال شأفة السياسة من حياته، من خلال تدمير أحياء بكاملها كما هو معروف، وإبادة جماعية : قتل 85 شابا في حي المشارقة في حلب وهم في بيجامات النوم صباح يوم العيد…كما وأنه قد حدث شبيه ذلك في العديد من المدن السورية…ولن نتحدث عن مجزرة تدمر حوالي (1000) من السجناء الأسرى العزل…أو ال135 الذين يوقع الجنرال طلاس بالنيابة عن الرئيس على شنقهم كل يوم، مما يفسر لنا معنى أن يكون هناك 17 ألف مفقود في سوريا…هل الحديث عن هذه الجرائم عزف على الوتر الطائفي…إذن ما هو مبرر الاعتقالات الشاملة التي طالت قوى يسارية وعلمانية وشيوعية، أليس اعتقال هؤلاء يؤكد هدف نزع السياسة من المجتمع…!!؟؟
.. إذن هي فتنة مادامت قد عجزت أن تصل إلى جر المجتمع إلى الحرب الأهلية، هي فتنة تم استغلالها لمعاقبة المجتمع وطرده نهائيا من فضاء السياسة.. وهذا يعني أن المجتمع السوري كان مجتمعا وطنيا أكثر اندماجا في حينها، أي لم يكن مستقطبا طائفيا كما هو اليوم، حيث كانت الطائفية محصورة بين الطرفين المتقاتلين اللذين لم يتمكنا من جر طائفتيهما للمواجهة الأهلية – المدنية، فانحصرت الحرب الطائفية بين المقاتلين الإسلاميين ومقاتلي النظام في الصورة المكثفة بسرايا الدفاع التي أشرفت على مذبحة تدمر…
هذه الممارسة الطائفية التي كانت صغيرة بحجمها، أي في مستوى حجم الفصيل الميليشي الإسلاموي، لكنها كانت كبيرة على مستوى ردود فعل السلطة التي اهتبلتها مناسبة وفرصة تاريخية لتعقيم المجتمع السوري من السياسة بما يتجاوز عشرات أضعاف الذين شاركوا في الفتنة، وذلك عندما بلغت الضحايا عشرات آلاف القتلى وعشرات آلاف المفقودين، وتوصيفنا هذا اعتمده تقرير ” سنوات الخوف ” المعتمد من قبل برنامج العدالة الانتقالية في العالم الذي (منظمة فريدوم هاوس) حيث يتحدث التقرير عن هذه الكارثة الوطنية إذ يقول ” وصفها أحد الكتاب السوريين ببراعة بأنها كانت ” انتصار للسلطة على مجتمعها في حربها ضده ” محيلين هذا القول في الهامش إلى مقال لنا في جريدة النهار…
فالتوصيف هنا إذن ليس ردة فعل فردية وشخصية على القمع المعمم -فحسب- وهو كما قلنا مشروع، بل هو فعل يصدر عن وعي إرادي عقلاني لا صلة له بضغط ظروف طارئة، ولا بالعزف على الوتر الطائفي…حيث الإخوانيون وحماس…وكذلك المحور الثيوقراطي الولايتي (إيران وحزب الله) هم حلفاء النظام اليوم…وبالتالي فالمشتركات معهم أكبر..ولذا لا تثريب عليهم من الأخوان أو الإسلام السياسي (السني والشيعي)، بل ما يقلقهم اليوم هو الإسلام المدني الدستوري الليبرالي الذي يتبرعم اليوم في سوريا مستلهما النموذج التركي في صورة (حزب العدالة والتنمية) الذي سيسحب من أيديهم ذريعة الحرب ضد السياسة باسم الحرب ضد الأصولية الجهادية والعنفية…بل وسيسحب ذريعة استخدام العزف على الوتر الطائفي…لأن محورهم بقيادة إيران هو الذي يتأسس بنيويا وتكوينيا وعضويا على المنطق الطائفي…وهو لا (يعزف) بل (يقرع) طبول حمى الطائفية الإيرانية في كل أنحاء العالم العربي…فلا تخشى يا أخي العزف –إن كان ثمة عزف- أمام قرع الطبل…. أما وضعنا أمام طريقين لا ثالث لهما (طريق الحريق أم طريق الغريق) فسنؤجل منا قشتهما إلى حديث قادم في حلقة قادمة.
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري- فرنسا