لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي قرر عشرات من أفراده تنظيم وقفة تضامنية في الذكرى السنوية الأولى لمقتل الشابة الإيرانية ـ الكردية مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق” في إيران، التي يصادف السبت 16 سبتمبر، حيث كان مقتلها شرارة بدء نضال شعبي واسع ضد نظام “ولاية الفقيه”، لا يزال بعض إفرازاته مستمرا إلى اليوم.
قد يرتبط تنظيم التضامن اللبناني بعوامل رئيسية، إذ لولاها لما تمت الوقفة، يأتي على رأسها، خضوع كامل لبنان لوصاية وإمرة تنظيم حزب الله، الأمر الذي يسميه الكثير من اللبنانيين “الاحتلال” الإيراني للبنان. وهو ما أدى بالمعارضة اللبنانية المناوئة لحزب الله إلى تنظيم الوقفة ورفع شعارات مؤيدة للاحتجاجات الإيرانية ضد نظام الولي الفقيه، مطالبة بتحرير لبنان وإيران معاً من أسر الفكر السياسي الديني.
أما بقية الدول العربية، فلا حس ولا خبر ولا وقفة ولا هُم يحزنون في هذه الذكرى التي قد تغير، في حال حدث تحوّل رئيسي في الداخل الإيراني نتيجة للاحتجاجات، خريطة المنطقة بأكملها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
فلماذا لم يحدث أي تحرك وتضامن ووقفة في دول عربية أخرى في هذه الذكرى الأليمة؟
يبدو أن العامل الأمني المرتبط ارتباطا وثيقا بسياسات حكومات المنطقة ومصالحها، والمتعلق بشكل وثيق بموضوع الحريات السياسية والحقوقية، يلعب دورا رئيسيا في وأد أي فكرة لتنظيم مثل هذه الوقفة، باستثناء تلك الوقفات المنطلقة من خلفيات دين ـ سياسية وقومية ـ عروبية.
حتى الإيرانيين المقيمين في الدول العربية، فهم لا يستطيعون تنظيم أي وقفة خوفا من ردود أفعال الحكومات ضدهم. أما مواطنو الدول العربية فهم، ثقافيا وحقوقيا، لا يزالون في الغالب يعيشون في التاريخ بعيدا عن الواقع الثقافي والحقوقي، وآخر همّهم هو مصير حقوق وحريات الإنسان ومسألة دعم نضالات الشعوب، كالشعب الإيراني الساعي للإنفكاك من النظام الديني الذي يلف رقبته بأسلاك من حديد مرعبة أثرت سلبا على جميع مناحي حياته، فأضحى هذا الشعب يئن من عذاباته ويسعى للحصول على دعم من مختلف الأطراف.
وعلى الرغم من عدم رضى المحتجين الإيرانيين والمعارضة الإيرانية من مستوى الدعم الغربي، وخاصة الأمريكي، للإحتجاجات، إلا أنهم لا يستطيعون إلا أن ينتقدوا ذلك. غير أن السياسات العربية تجاه طهران، من وجهة نظر غالبية المحتجين، تساهم في دعم استمرار النظام بدلا من الوقوف إلى جانب مطالب المحتجين الإيرانيين.
لقد شاهدنا كيف تضامنت المنظمات الدولية مع مقتل أميني، وخاصة المنظمات غير الحكومية التي تدافع عن حقوق الإنسان، فهي ناشطة بشكل خاص في دعم المحتجين في إيران. لكن الهيئات الدولية الرسمية والحقوقية، والتي تملك الصلاحية الشرعية لمساءلة الحكومة الإيرانية، مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فلم تتجاوز ردود أفعالها الإعراب عن القلق إزاء ما يحصل في بيانات وتصريحات. فهذه المنظمات مسيطر عليها من قبل دول تتصرف بناء على أولويات سياساتها الخارجية. ويقول نشطاء إن حقوق الإنسان بالنسبة للعديد من الدول ليست بالضرورة شأنا يتمتع بالأهمية القصوى. غير أن الحكومات العربية والمنظمات الحقوقية العربية تمادت في عدم تضامنها وعدم الإعراب عن قلقها تجاه قمع الإنسان الإيراني.
يقول عالم الاجتماع الإيراني ـ الأمريكي “آصف بيات”، الذي يدرس عن كثب حركات الاحتجاج في الشرق الأوسط، في لقاء مع صحيفة يومية في طهران فيما يخص مقتل أميني واحتجاجات الإيرانيين: “يشعر الناس (في إيران) أن نظام رجال الدين المسنّين حرمهم من الحياة الطبيعية. هؤلاء الرجال، كما يشعرون، يبدون منفصلين عن الناس ومع ذلك استعمروا حياتهم”.
كلام بيات ينطبق، ضمنا، على الوضع العربي أيضا. فهيمنة الدين على حياة الكثيرين في المجتمعات العربية ولامبالاتهم تجاه الثقافة الحقوقية الحديثة، أبعدهم عن الاهتمام بحقوق الإنسان وعن التضامن مع الإحتجاجات الحقوقية للشعوب المقهورة مثل الشعب الإيراني.
يقول فريدريك ديكناتل، المحرر التنفيذي لمجلة “الديمقراطية في المنفى”، إن الظروف السياسية/الاجتماعية التي تفرضها سلطة ولاية الفقيه على إيران يمكن أن تنطبق على العديد من الدول العربية، حيث يعكس قمع حقوق المرأة قيودا أوسع على الحقوق السياسية وحقوق الإنسان الأساسية الأخرى، مضيفا “إذن، كيف يمكن الشعور بالاحتجاجات المستمرة في إيران في تلك الدول العربية، من العراق المجاور إلى دول الخليج؟ إذا استرشدنا بالتاريخ، فهل تعتبر احتجاجات إيران نذيرا باحتجاجات أخرى في العالم العربي أيضا سعيا إلى الكرامة والحرية؟”.
العديد من المحللين رأوا في رفض الحكومات العربية التضامن مع قضية مقتل أميني ودعم احتجاجات الإيرانيين، في ظل الشعارات الرئيسية للمحتجين والتي استندت إلى المطالبة بالحريات الأساسية للإنسان الحديث وارتبطت بتفعيل العلمانية والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة بل وفصل الدين عن الحياة، هو خوفها من انتقال نار تلك المطالب إلى الشعوب المجاورة. فالمنطقة العربية لا تزال تعيش بعض حيثيات الربيع العربي، وانتقلت المطالب والظروف والأحداث فيها من بلد عربي إلى آخر.
فمثلما ألهمت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 حركات احتجاجية دينية في مختلف الدول العربية، هناك تخوف عربي من أن يكون الحراك الإيراني الراهن، ملهما لتحركات شعبية تطالب بالعلمانية والديمقراطية.
يقول ديكناتل إن نضال الشعب الإيراني ليس مجرد نضال للنساء الساعيات إلى الحرية، بل هو أيضا نضال الأقليات العرقية والدينية التي تسعى إلى المساواة والتمثيل في الأمة. على هذا النحو، فإن هذه الاحتجاجات مقنعة للنشطاء في جميع دول المنطقة الذين لديهم تعريف شامل للديمقراطية. فهؤلاء النشطاء يواجهون مستوى أكبر من التدقيق من قبل الحكومات واهتماما أقل من السكان المحليين، الذين يهتمون في كثير من الأحيان بالمظالم الاقتصادية أكثر من قضايا المرأة أو قضايا المجموعات العرقية المختلفة. وربما ستذكّر هذه الاحتجاجات المنطقة بأن السعي لتحقيق الديمقراطية، مثل الديمقراطية نفسها، يجب أن يكون شأنا شاملا.
لذلك، فإن شبح الاضطراب الاجتماعي الأكبر بالنسبة للدول العربية القمعية يلوح في الأفق تأثرا بالاحتجاجات في إيران وتضامنا مع ذكري مقتل أميني. لقد لاحظنا، ولا نزال نلاحظ، كيف هي ردة فعل بعض الإعلام العربي “الرسمي” تجاه الأحداث في إيران، خاصة إعلام الدول العربية القمعية. كانت تغطية هذا الإعلام للاحتجاجات مختلفة تماما عن تغطية الإعلام الغربي، وكان المشاهد العربي يلجأ إلى الوسائل الغربية، من قنوات إخبارية ووسائل تواصل اجتماعي، لمتابعة ما يحدث في إيران.
ثم رأينا كيف أن بعض الحكومات العربية، خاصة وسائلها الإعلامية، تقف إلى جانب المحتجين وتؤيد مطالبهم بما يحقق مصالح هذه الحكومات. ثم ما أن حدث تحول في سياسات هذه الحكومات بما يخدم مصالحها الجيوسياسية بحيث باتت مراجعة العلاقات مع النظام الإيراني تخدم مصالحها العليا، شاهدنا تحولا إجباريا في توجهات إعلامها تجاه الاحتجاجات.
قطر، على سبيل المثال، هي من الدول التي وقفت، ولا تزال، خاصة مؤسستها الإعلامية البارزة (قناة “الجزيرة” الإخبارية) إلى جانب الربيع العربي وحراكات الشعوب العربية، ودعمت بالذات مطالب الإسلاميين (الاخوان المسلمين) في هذا الإطار. لكنها عكست موقفا مغايرا تجاه مقتل أميني وتجاه الحراك الإيراني. ولا شك أن سبب ذلك يعود في الأساس إلى العلاقات الاستراتيجية التي تربط الدوحة بطهران. ثم أن قطر تدعم المشروع الديني التاريخي في الحراك العربي، في حين أن الحراك الإيراني ينطلق من خلفية علمانية حداثية، وهو ما قد يوضح أنّ المشروعين متنافران إلى حد كبير، ومن شأن ذلك أن يوسّع من هوة الاختلاف السياسي بين الداعمين لهما.
*فاخر السلطان كاتب كويتي