انتهت في الكويت منذ فترة قصيرة “مراسم محرم وصفر” الشيعية في حسينيات البلاد، من “عاشوراء” و”أربعينية”، وساد كالعادة ولحسن الحظ، وكما هو متوقع، تفاهم وطني أمني راسخ، بين أصحاب ورواد الحسينيات، ولم تنتصر دعوات المتشددين إلى المواكب والمسيرات والتعبئة السياسية الطائفية، كما أشاد الكثير من المحتفين بهذه المناسبة المذهبية، بالدور المشكور البالغ الأهمية، الذي قامت به قوى الأمن الكويتية والإخوة من شرطة وضباط وموظفي وزارة الداخلية، في حماية الحسينيات وتنظيم المرور حولها، والحرص الشديد على سلامة روادها، وبخاصة صيانة الجميع من الاعتداءات الإرهابية، التي تفجر عصاباته مساجد السنّة في مصر وحسينيات الشيعة في باكستان!
قامت “الحسينية” في الوسط الشيعي المعاصر بأدوار متعددة دينية، ومذهبية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية وغيرها، ودار بين الشيعة جدل خاص وعام حول طبيعة المواضيع التي تطرح على منابر الحسينيات ودور هذه المؤسسة الدينية المذهبية. إذ تأثر هذا الدور بحجم الوسط الشيعي ونسبته في كل قطر، والموقف الرسمي ودرجة التسامح، وطبيعة القيادة الدينية والمرجعية، ونوعية الانقسامات الفكرية والسياسية والمذهبية في الأوساط الشيعية وغيرها.
وقد يتساءل الكثير من الكويتيين وبخاصة من المتعلمين والمثقفين، ما طبيعة الحسينيات في البلاد وما تاريخها؟ وما التيارات الفكرية التي تقودها؟ وما التوجه السياسي الغالب عليها وعلى روادها؟ وهل ما زال للحسينية أدوار أخرى ثقافية وفكرية مثلا، كما كانت عليه الحال في العراق ولبنان وإيران والكويت والبحرين والأحساء في بعض المراحل، حيث تأثر بجوها وخطبائها ومنابرها الكثير من أدباء ومثقفي الشيعة في هذه الدول، وكذلك الشعراء والساسة؟ وهل ثمة دراسات ورسائل جامعية حول “مؤسسة الحسينية” كما تسمى في الكويت، “والمأتم” كما في البحرين؟ وهل الحسينية مؤسسة مذهبية خاصة أم وطنية عامة كما جرى في ظل الغزو والتحرير؟ وكيف يمكن إعادة أو تخليص تلك الحسينيات التي اختطفها “التشيع السياسي” وناشطوه في هذه الأقطار منذ سنين، وبخاصة مع أواسط السبعينيات، وقيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979؟ وما موقف الأجيال الحديثة من الشعائر والممارسات؟
تمثل الكويت حالة نادرة من التفاهم بين المذاهب ومعرفة كل طرف بأهمية العلاقة الودية ودوام التقدير المتبادل، وعندما بنيت “حسينية معرفي” في سنة 1906 و”الخزعلية” في 1916 ساهم شيوخ الكويت في موادها وتكاليف بنائها والتبرع لشراء البيوت المجاورة لتوسعة الحسينية، ولا تزال الحسينيات في الكويت مادة خصبة لدراسة أكاديمية أو أطروحة دكتوراه أو كتاب أرشح للقيام بها الأخ الفاضل د. يعقوب يوسف الكندري، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة مثلاً وصاحب العديد من الكتب والمؤلفات، ومنها كتابه “الديوانية الكويتية: دورها الاجتماعي”، الكويت 2002، بل يمكن كتابة أكثر من بحث حول الحسينيات وتاريخها وروادها، يقوم بها آخرون.
نظر عدد ليس بالقليل من مراجع الشيعة ومثقفيهم منذ سنين وعقود في إيران والعراق ولبنان، إلى واقع “مراسم عاشوراء السلبية” وبخاصة جرح الصدور ولطمها وشق الرؤوس وإدماء الجسد، والتمثيل الدرامي لموقعة كربلاء وغير ذلك، إلا أن الوعظ والإفتاء والنهي في هذه القضية لم يصرف الناس عنها، وذلك لسعة الجمهور المتدين من جانب ولعدم قدرة الفقهاء والمصلحين و”المراجع” على الاستمرار والإصرار. وبخاصة أن المؤسسة الفقهية والمرجعية الشيعية تعتمد على تبرعات فريضة الخمس من جانب، لتغطية مصاريفها المعيشية والدراسية، كما أن صعود وبروز المرجع الديني يحدده عدد الأتباع “والمقلدين”، فيحرص كل مرجع على عدم تنفيرهم تعزيزا لمكانته، مما يضيق هامش تحركه الفقهي والإفتائي في القضايا المتعلقة بمراسيم عاشوراء ومحرم خاصة، وذلك تجنبا كذلك للتشهير به والتهجم عليه في أوساط المرجعية نفسها، وحيث تعاني مدن الشيعة الدينية من هذه الظاهرة بشكل دائم.
تباينت مواقف السلطة في إيران من الظاهرة، فقد أيدها بالطبع الصفويون والقاجاريون، وعارضها رضا شاه وابنه.
ومما ذكرناه في مقالات سابقة أنه “بالرغم من قوة علماء الدين في إيران ونفوذهم بين الجماهير فإن الطبقات الشعبية وميولها الدينية لم تكن دائما أداة سهلة بيد العلماء سواء أيدت السلطات هذه الميول أم وقفت ضدها. فالمعروف مثلا أن ناصر الدين شاه قاجار، ملك إيران (1848-1896) هو الذي شجع الكثير من المبالغات الدينية التي كانت ترافق ذكرى مقتل الإمام الحسين في عاشوراء، والتمثيليات الدينية وأشكال تعذيب الجسد المختلفة. بل بنى سرادقاً كبيراً لها كان يدعو إليه السفراء الأجانب في طهران، وهنا تدخل العلماء ممن كانوا ضد مثل هذه المبالغات لمنعها، وهكذا صارت الدعوة للسفراء تقتصر على السفير العثماني لكونه من المسلمين، ونجح العلماء بعد جهد جهيد في منع ما يسمى بزفاف القاسم، ولكن الحسينيات كانت تؤدي أدواراً أخرى، ومن هنا ظلت مستمرة رغم نفور العلماء من اللطم وتعذيب النفس، وعندما استولى رضا شاه على السلطة، واتبع سياسته المعروفة في معاداة هذه المظاهر ظلت مستمرة أيضاً.
بل إن الكثيرين من علماء الدين الشيعة، ومن بينهم هبة الله الشهرستاني، وسيد محمد الموسوي البهبهاني وغيرهما أفتوا عام 1955 بأن كافة هذه التصرفات والمظاهر لا أصل لها في الشريعة، ونشرت الفتاوى في جريدة اطلاعات الإيرانية”. (نقد الصحوة الدينية، الكويت 1986، ص188)
اتسع نطاق هذه المراسم وبخاصة المبالغ فيها بعد الثورة الإيرانية، إذ تبنى آية الله الخميني ونظام الثورة الإسلامية الجديد، وبحماس شديد، مراسم وشعائر عاشوراء التي ما زالت تتسع وتتنوع منذ عام 1979، وتضاف إليها شعائر جديدة لم يعرفها الشيعة عاماً بعد عام، وقد اكتشف قادة الثورة الإيرانية في هذه الشعائر أداة لا مثيل لها في تعبئة الجماهير الشيعية واستقطابها وبث الحماس فيها وزيادة التشدد الديني والولاء الثوري والمذهبي خارج إيران خاصة، ولتغطية ثغرات التجربة السياسية والاقتصادية في الداخل، ولهذا عمدوا إلى تشجيعها في أوساط مختلف مناطق الشيعة، وذلك بالطبع دون أي مراعاة لحقوق أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، حيث يحترم الكثير منهم في إيران والعراق ولبنان وغيرها الشيعة وأهل البيت وحرية ممارسة الشعائر الدينية، ولكن دون بعض نماذج التطرف والتشدد، التي لا يقرها الكثير من فقهاء ومراجع الشيعة أنفهسم.
والآن، من يستطيع إنقاذ “مؤسسة الحسينية” ومراسم عاشوراء من هذه المبالغات وهذا التسييس: ومن يستطيع إعادة الملامح المعتدلة التي تميزت بها عبر العقود والقرون؟
من المستبعد تماماً أن يستطيع التيار الإصلاحي الشيعي داخل إيران أن يفعل شيئاً، بسبب غياب الحريات الدينية وحتى المذهبية، ولا يمكن مثلا لشيخ في الحوزة الدينية، أو أستاذ “في كلية الإلهيات” بالجامعات الإيرانية أو باحث أو كاتب أو واعظ أن يقترب بالنقد من سياسات الدولة في هذا المجال، ولا نعرف تأثير ذلك النهي إن فعل!
كما أن شيعة لبنان، بلد “حزب الله” أضعف من أن يتصدوا لهذه الممارسات، بعد أن نال المرجع “محمد فضل الله” ما ناله لآراء صدرت منه. أما مرشد الثورة السيد علي الخامئني فلا ينتقدها أو يعارضها في فتاواه “أجوبة الاستفتاءات” بوضوح كما سنرى.
ولا شك أن شيعة العراق وقياداتها السياسية والدينية ومرجعية السيد علي السيستاني في وضع أفضل، وحرية أكبر، وبخاصة بعد هذا الانتصار الباهر على “داعش” وتحرير العراق من عصابات الإرهاب ودولته، ولكن المرجعية الشيعية في العراق- في النجف خاصة- شبه محاصرة، ونفوذ إيران لا حدود له دون أن يكون مرئيا أو علنيا في الممارسة بالضرورة.
والقوى الشيعية أحزاب متفرقة متشرذمة متصارعة، كما أن العراق مرهق ومدمر بعد هذه الحرب الشرسة ضد الإرهاب، وهو في ظل تراجع أسعار النفط وصراع التيارات في اعتماد متزايد على إيران، وهكذا.
وقد ينجح شيعة الكويت خاصة، وإلى حد ما البحرين والأحساء، في عمل شيء، ليس في مجال المراسم الحسينية فحسب، بل كذلك ربما في تهدئة الأوضاع وتطبيع العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية ولكن من يتحرك؟ ومتى؟
“الجريدة”