اعتاد المغاربة على إثارة قضايا الفساد المالي والإداري التي تنخر المجتمع والدولة ؛ كما اعتادوا التركيز على الجرائم المالية والإدارية الكبرى والمتوسطة والتي لا يخلو قطاع أو مرفق عمومي وشبه عمومي منها . وللرأي العام ما يبرر اهتمامه وإثارته لهذه القضايا بسبب ما تشكله من تهديد مباشر لحاضر ومستقبل الوطن والمواطنين . ذلك أن الثروات التي تعصف بها أيادي النهب والاختلاس
والتهريب والتبذير هي رأسمال الوطن ومدخراته لقادم الأيام .
ومن حق المواطن الشريف ، بل ومن أوجب واجباته أن يكترث بالأخطار التي تحذق بثروات وطنه وتستنزفها . لكن ما يأسف له كل غيور هو المصير الذي تنتهي إليه قضايا الفساد والملفات ـ على قلتها ـ التي تتشكل بشأنها لجان التقصي أو تعرض على أنظار القضاء . كل هذه القضايا والملفات لا يطالها من الحزم والصرامة والتعجيل بالبت وتنفيذ أحكام القضاء ما يطال ملفات البسطاء من المواطنين الذين مهما كانت درجة خطورة الجنح المتابعين بسببها ، فلن تصل أبدا إلى الكارثة والفضيحة اللتين تجسدهما ملفات أباطرة المخدرات وناهبي المال العام الذين يسرقون قوت المواطنين ومستقبلهم ويلقون بهم في دوامة اليأس والإجرام والانحراف والتطرف . إن ما يخشاه المرء هو أن يصير للفساد المالي والإداري مساطر إدارية تتستر عليه وتشريعات قانونية تحميه ومؤسسات دستورية تؤويه . ولا غرابة في هذا أن نجد من ملفات النهب والفساد ما طواها النسيان أو جُعل لأصحابها منافذ إلى البراءة أو وقف المتابعة بسلطة القانون وقوة التشريعات . إن وضعية اللاعقاب التي يحظى بها الفاسدون وعدم مصادرة الممتلكات والأرصدة المترتبة عن النهب والفساد ، هي ما يشجع على استفحال ظواهر الارتشاء والنهب والتهريب . لذلك فإن” المال السايب يعلم السرقة” كما عبر المثل الشعبي أحسن تعبير عن وضعية التسيب وما ينجم عنها. إنها كارثة بكل المقاييس . لكن الكارثة الأعظم هي التي تتسبب فيها فئات من الناس ، كل من موقعه ، بدافع المكاسب المادية . وأخص هنا فئتين يمكن اعتبارهما نموذجا تقاس عليه أطماع فئات أخرى .
الفئة الأولى : ويتعلق الأمر بالإعلاميين حيث نجد فئة آخذة في التوسع أوجدت منابر إعلامية لا مبدأ يوجهها ولا قيم تحكمها غير مبدأ الكسب المادي وقيم النفاق والتملق . إن هذه الفئة من الإعلاميين فقدت حسها الوطني وباعت ضميرها لمن هم أشد خطرا على المجتمع والدولة الوطن . دافعها الأساس ، من خلال ما تثيره من قضايا وما تعبر عنه من مواقف ، ليس أبدا التصدي للفساد ومواجهة أذنابه وعملائه كما يقتضيه الشعور الوطني والميثاق المهني ؛ بل تحرث أرضا ليزرع المتطرفون بذور التشدد وثقافة الكراهية ، كما تعبّد ممرا تنفذ منه فلول الإرهاب إلى بيئة ظلت عصية عن الاختراق . لقد تحولت الساحة الإعلامية أسوة بمثيلتها السياسية والحقوقية إلى مجال لمغازلة التطرف ومهادنة جماعاته ولسان حال رموزه . وكل هؤلاء ـ إعلاميين ، سياسيين ، حقوقيين ـ قلوبهم شتى لكن تجمعهم مصلحة “الظفر” بملاليم بيع الوطن في جوطية المناقصة . لهذا تلهث بعض المنابر الإعلامية ـ طمعا في ملاليم مفسدي الضمائر وناهبي القيم ومدمري العقول ـ وراء إرضاء دعاة التطرف عبر ترويج خطابهم واحتضان أقلامهم ونشر بياناتهم وتلميع صورتهم وتبني قضاياهم . إنه لأمر يبعث على الاشمئزاز والغثيان أن تجعل هذه المنابر من ثقافة التدمير وسكاكين الغدر وجز الرقاب مصدرَ عيش صحافييها ؛ بل وتخوض رهان رفع المبيعات بمعاول التكفير ومخططات التدمير ومشاريع مجتمعية لم تعرف البشرية نظيرا لها في الوحشية والاستبداد . إنها تبيع الوطن بأبخس الأثمان. وإذا كان هناك ما يغري عصابات الفساد ولوبيات النهب بفعل ما يراكمونه من ثروات طائلة في آجال محدودة ، فيموت ضميرهم ويشتد جشعهم ، فإن هؤلاء الصحافيين لا عذر لهم في اللهاث وراء ملاليم لن تراكم ثروة ولن ترفع مقاما ، بقدر ما يهيئون المنافذ إلى عقول القراء ليستغلها دعاة التطرف والكراهية في التأثير والهيمنة على نفوس متعطشة إلى التغيير والإصلاح . ومن ثم تمكين عقائد التطرف من التطبيع ـ في نفوس القراء ـ مع قيم الديمقراطية ومطالب التحديث . ومن شأن هذا التهجين أن يوفر وضعية نفسية تقبل بالاصطفاف إلى جانب التطرف والتخندق خلفه .
أما الفئة الثانية فيمثلها بعض أصحاب المؤسسات التعليمية الحرة الذين حولوها إلى مقرات للتأطير وشحن الناشئة بعقائد الغلو وثقافة التطرف . لقد جعلوا من هذه المؤسسات مشاتلا لتفريخ التطرف والكراهية وتمجيد الموت . وإذا كانت الأجهزة الأمنية تبذل مجهودات جبارة في سبيل رصد الأنشطة الإرهابية وتفكيك خلاياها بهدف حماية أمن الوطن وضمان استقراره ، فإن القطاعات الحكومية الأخرى ـ وخاصة التعليم والأوقاف والثقافة والإعلام ـ توجد خارج خطط التعبئة الشاملة التي تتبناها الدولة على مستوى الأجهزة الأمنية . وما الموضوع الذي أثارته جريدة الصباح بشأن أنشطة واحدة من هذه المؤسسات سوى مؤشر عن خطر آخذ في التشكل داخل قطاع التعليم بدءا من رياض الأطفال وانتهاء بالمؤسسات الجامعية التي ستفرخ العشرات من أمثال المهندس هشام الدكالي الذي فتكت به عقائد التكفير وحولته إلى عاشق للقتل والتفجير .
إذن إذا كان بيع الوطن بالملاين يخلق أسباب الفقر والتهميش فإن بيع الوطن بالملاليم ينشر عقائد التكفير وثقافة التفجير . وكلاهما ـ التفقير والتفجير ـ أشد فتكا بالمواطن وتدميرا لمقدرات الوطن . فهل من مذّكر ؟
selakhal@yahoo.fr