كنت في يومي 27 و 28 في أبوظبي الجميلة بقيادتها المتنورة، وناسها الكرماء، ومباهجها العديدة لحضور منتدى الاتحاد السنوي الذي إختار له منظموه هذا العام موضوعا مصيريا هو: “مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي”، وذلك إستشعارا منهم بأهمية هذا الملف في ضوء ما تشهده المنطقة العربية من تقلبات منذ حدوث ما يــُسمى بـ”الربيع العربي”.
في هذين اليومين، وعلى مدى خمس جلسات تحدثت نخبة من المفكرين والباحثين والأكاديميين والإعلاميين العرب والخليجيين عن محددات وإشتراطات الدولة الوطنية، والتحديات التي تواجهها، وآليات تعزيز مفهوم المواطنة وحب الوطن، ناهيك عن حوارات ومناقشات واسعة جرت حول دور الإسلام السياسي في تفتتيت الدولة الوطنية، ودور الولاءات الطائفية والمذهبية في القفز على فكرة الولاء الوطني والإضرار بالتماسك الوطني.
في الورقة التي قدمتها تطرقت إلى الإلتباس الذي يقع فيه الكثيرون ما بين مصطلحات الدولة، والحكومة، والنظام السياسي، والمجتمع. حيث أن هذه المصطلحات مختلفة في دلالاتها وأبعادها، ومقاصدها، وتاريخ ظهورها.
ثم تطرقت إلى ما يزعمه بعض المفكرين من أن الدولة العربية الوطنية من صنيعة الإستعمار الأجنبي، وما يقوله البعض الآخر من إنتفاء وجود هذه الدولة أصلا، زاعما أن الموجود ليس سوى أنظمة سياسية قمعية تتوارث السلطة.
• وفي إستعراضي لتاريخ الدولة العربية الوطنية قلت أن البداية تمثلت في فكرة إقامة الدولة/ الأمة أو الدولة القومية الجامعة لكل العرب من مراكش إلى البحرين، ومن صلالة إلى طنجة، وهي فكرة قادها الآباء الأوائل للإستقلال ثم تلقفها قادة بعض الحركات الإنقلابية والأحزاب العربية المؤدلجة كحزب البعث. ولما إستعصي على العرب تحقيق هذا الحلم إستعاضوا عنه بفكرة الجامعة العربية التي ولدت ميتة ولم تحقق شيئا يذكر. وأضفتُ أنه كنتيجة لهذا وبسبب التحديات التي واجهتها الكيانات العربية لجهة أمنها وإستقرارها في ظل الحرب الباردة في حقبتي الثمانينات والتسعينات ظهرت فكرة مجالس التعاون المكونة من أقطار متلاصقة جغرافيا أو تجمعها القواسم السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية المشتركة وتشابه درجات النمو وأنظمة الحكم. وهكذا ظهر مجلس التعاون الخليجي، وهو الكيان الوحيد الذي إستطاع أن يصمد فيما إنهارت مجالس التعاون الأخرى بسبب التباينات الإيديولوجية والمواقف السياسية المتضاربة والخلافات الحدودية وغيرها من العوامل. وفي نهاية هذه الجزئية لفتتُ النظر إلى أن العرب لم يفشلوا فقط في إقامة الدولة/ الأمة، وإنما صارت دولهم الوطنية القطرية تواجه تحديات جسيمة تهدد بقاءها كما في السودان واليمن وليبيا والصومال، أو تحديات تفقدها معناها كما في لبنان والعراق، أو تحديات تضرب مشروعها التحديثي كما في مصر وتونس. وفي هذا السياق لخصتُ ولخص غيري من الزملاء في أوراقهم هذه التحديات فيما يلي:
• ما تقوم به حركات الإسلام السياسي، التي لا تؤمن بالدولة الوطنية القطرية وتراها أمرا مؤقتا، من ممارسات هادفة إلى إضعاف فكرة الولاء للوطن مقابل ترسيخ الولاء لللأمة الإسلامية.
• القمع والتهميش الممنهجين اللذين يمارسهما بعض الأنظمة العربية الحاكمة كما في الحالتين العراقية والسورية، وهو ما دفع بعض مكونات هذين البلدين للحلم بإقامة بؤر إنفصالية تستجيب لتطلعاته
• التدخلات الإقليمية (ولاسيما تدخل إيران التي حاولت قرصنة إحتجاجات “الربيع العربي” عبر القول بأنها رافد من روافد الثورة الخمينية) والتدخلات الدولية (ولاسيما تدخلات واشنطون التي تسعى إلى إحداث الفوضى الخلاقة)، وكلها تدخلات تهدف بالطبع إلى تفتتيت الدولة العربية الوطنية إلى كيانات أصغر من أجل أن تسهل عملية السيطرة عليها وإستحلاب خيراتها وتوجيه سياساتها نحو الوجهة التي تخدم مصالح المتدخلين.
• الشعارات العبثية المتمثلة في المظلومية والقائمة على التحريض والتجييش والتأزيم والتشكيك في مصداقية النظام الحاكم ونزاهة القضاء، وفق رؤية حرق المراحل التي تستدعي الأدوات الراديكالية الثورية في التغيير ولا تؤمن بنظرية التحول والإصلاح التدريجي، على نحو ما حدث في البحرين الآمنة
والحقيقة أن أكثر ما إستأثرت به المناقشات والحوارات والمداخلات هو موضوع الخطر الذي بات يشكله الإسلام السياسي على ديمومة الدولة الوطنية القطرية.
• فالإسلام السياسي لايؤمن بالدولة الوطنية ويراها بدعة من صنيعة المستعمر الأجنبي، ويتبنى، كبديل، فكرة إقامة دولة الخلافة العابرة للقارات إبتداء من إندونيسيا وإنتهاء بالسنغال ونيجيريا. أما دليلنا على هذه الجزئية فهو ما صرح به علنا المرشد العام السابق لجماعة الإخوان حينما قال: “طز في مصر”، وما اضافه بعد ذلك من أنه لا يمانع أن يحكمه ماليزي أو إندونيسي إن كان مسلما. والدليل الآخر نستقيه من تحريم جماعات إسلامية أخرى لأداء تحية علم الوطن، أو إنشاد النشيد الوطني.
• والإسلام السياسي لا يعترف بالمواطن إلا إذا بايع المرشد أو الولي الفقيه.
• والإسلام السياسي صار يؤجج الفرز المذهبي والطائفي
• والإسلام السياسي ليس لديه مشروع إقتصادي أو تنموي أو ثقافي أو إعلامي أو تكنولوجي أو تنويري، وإنما لديه فقط مشروع سياسي يتمثل في الوصول إلى السلطة والإمساك بها عبر تمكينه لأنصاره – دون مكونات الوطن الأخرى – من التغلغل في كافة مفاصل الدولة. ولعل ما حدث في مصر خلال تولي الدكتور العياط للسلطة أفضل مثال على صحة ما نقول.
• والإسلام السياسي لا يمانع من الإستقواء بالأجنبي ودعوته للتدخل في شئون الوطن إن كان في ذلك حلا لتمكينه من السلطة.
وعلى الرغم من كل هذه المخاطر على سلامة وأمن وإستقرار الدولة الوطنية في الخليج على الأقل، نرى أن السياسات الخليجية متباينة في طريقة التصدي لها. فهي تتراوح ما بين الهشة، والصارمة، والمهادنة، والداعمة، واللامكترثة!
وفيما يتعلق بكيفية المحافظة على الدولة الوطنية في العالم العربي وتعزيزها بمداميك صلبة تم طرح العديد من الحلول لعل أهمها:
• الإصلاح الديمقراطي، ويتفرع منه ترسيخ مباديء المواطنة، والعدالة الإجتماعية، والمساواة بين مكونات الوطن، ودور منظمات المجتمع الوطني كقناة غير رسمية ما بين الجمهور والمسئول.
• تربية النشأ الجديد على ثقافة حب الوطن والافتخار به والاستعداد للدفاع عن حياضه عبر تجنيد وسائل الإعلام، والمناهج الدراسية، والمنابر الدينية، والمؤسسات المجتمعية والجمعيات الثقافية، لهذا الغرض.
• بناء جيش وطني قوي قادر على حماية مكتسبات الوطن، مع تقييده بما يحول دون تحوله الى اداة للقمع والتسلط، أي تحديد دوره في الدفاع عن حدود الدولة والشرعية الدستورية، وتوفير مستلزمات الامن الوطني والاستقرار العام.
• تحجيم القوى المضادة للدولة المدنية الحديثة – كقوى الاسلام السياسي بشقيها – بقوة القانون.
• تنمية بشرية واقتصادية واجتماعية أساسها وهدفها بناء الإنسان وتعبئة الموارد والطاقات ومراكمتها، مع التأكيد على الحرية الاقتصادية والانفتاح على العالم وتنويع قاعدة الاقتصاد الوطني ووضع منظومة من التشريعات المساعدة.
• ترسيخ مبدأ علمانية الدولة بمعنى أن تكون الدولة محايدة إزاء مكوناتها الإثنية والدينية والثقافية والجهوية.
• ربط الموقع الجغرافي بتاريخ البلد. وهذا يستند إلى الرؤية الجيوبوليتيكية والتي تستند بدورها إلى مفهوم جعل الدولة قوية في داخلها ومشعة في محيطها.
*باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh