من سيقود ثاني اكبر ديمقراطية خارج العالم الغربي وثاني اكبر اقتصاد في العالم؟ هذا هو السؤال الذي برز على الساحة منذ الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة اليابانية الشاب شينزو أبي (52 عاما) أوائل الشهر الجاري بعد أن أمضى في السلطة سنة واحدة فقط. وهو سؤال صار أكثر طرحا مع اقتراب الموعد الذي حدده حزب البلاد الأكبر والأعرق (الحزب الديمقراطي الحر) لانتخاب زعيم جديد له والذي سيتولى اتوماتيكيا رئاسة الحكومة، على اعتبار أن الحزب لا يزال يتمتع بأغلبية مقاعد مجلس النواب الذي لقراراته الخاصة بتسمية رئيس الحكومة صفة متقدمة على قرارات مجلس الشيوخ، حيث خسر الحزب الحاكم أغلبيته فيه في انتخابات أواخر يوليو الماضي لصالح حزب المعارضة الرئيسي (حزب اليابان الديمقراطي).
صحيح أن استقالة الحكومات في اليابان أمر ليس بالغريب، بل هي ظاهرة ربما لا تشاركها فيها الديمقراطيات الأخرى من حيث عدد مرات حدوثها، وصحيح أن تلك الاستقالات معطوفة على تغير وجوه القادة لم تؤثر كثيرا على استقرار البلاد وتوجهاتها والخطوط العريضة لسياساتها منذ بزوغ وترسخ نظامها الديمقراطي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الثانية. غير أن هناك الكثير مما يمكن قوله في اختلاف الحدث هذه المرة عن السابق.
فرئيس الوزراء المستقيل كان اصغر رؤساء الحكومات اليابانية سنا والوحيد الذي لم يعاصر الحرب العالمية الثانية. وهو جاء إلى السلطة حاملا وعودا بأن يخلق “يابان أكثر جمالا”، لذا وصف بأنه حلم اليابان. ثم أن من اختاره ودفعه إلى الواجهة هو سلفه “جونيتشيرو كويزومي” الذي أراده أن يكمل ما خلقه من ديناميكية في الوسط السياسي، وما دشنه من إصلاحات حزبية ودستورية واقتصادية جذرية بهدف تحجيم قوة البيروقراطيين وعواجيز الحزب الحاكم وتحرير الاقتصاد من بقايا السياسات المحافظة، وإطلاق وجه جديد لليابان يتناغم مع متطلبات وتحديات الألفية الثالثة.
ومن جهة أخرى، فان هذه هي المرة الأولى، منذ استقالة رئيس الوزراء الأسبق كيشي نوبوسوكي في عام 1960 ، التي يخسر فيها رئيس حكومة يابانية منصبه لأسباب ذات علاقة بروابط التعاون والتحالف مع الولايات المتحدة، والمفارقة هنا هي أن نوبوسوكي هو جد شينزو أبي. صحيح أن استقالة أبي كانت بسبب جملة من العوامل مثل فقدان حزبه للأغلبية في مجلس الشيوخ بعد الانتخابات الأخيرة، وتورط عدد من وزرائه في فضائح مالية وبالتالي اضطرارهم إلى الاستقالة، وتراجع شعبيته إلى 30 بالمئة طبقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة يوميوري، إلا أن العامل الأقوى كان فشله في خلق دعم كاف للتمديد مجددا للمهمة اللوجستية التي تقوم بها قوات الدفاع اليابانية في المحيط الهندي لصالح القوات متعددة الجنسية العاملة في أفغانستان وغيرها.
والجدير بالذكر أن هذه المهمة بدأت في عام 2001 ولمدة عامين، وذلك بموجب قرار تم تمريره في مجلسي النواب والشيوخ. ومنذ ذلك الحين مددت المهمة 3 مرات في الأعوام 2003 و2005 و2006 ، وفي كل مرة كان حزب اليابان الديمقراطي المعارض يصوت ضد المهمة وتمديدها، لكن دون نجاح. على أن الأمر تغير اليوم بوجود أغلبية للحزب المذكور في مجلس الشيوخ يستطيع من خلالها إعاقة التمديد مرة أخرى حينما ينتهي مفعول التمديد السابق في نوفمبر القادم. وكان زعيمه “ايتشيرو اوزاوا” ،الرجل القوي سابقا في الحزب الديمقراطي الحر الحاكم، قد أطلق خططا وحملات منذ يوليو الماضي ليس للتصدي لعملية التمديد فحسب وإنما أيضا للقاعدة القانونية التي تستند إليها وهي قانون محاربة الإرهاب. على أن الكثيرين يعتقدون أن “اوزاو” لا ينطلق من موقف عدائي أو شبه عدائي ضد علاقات التحالف اليابانية- الأمريكية، وإنما ينطلق من تكتيكات هدفها خلق أزمة سياسية والإطاحة بحكومة الديمقراطيين الأحرار من اجل الدعوة إلى انتخابات عامة جديدة قبل أوانها المفترض في عام 2009 ، وهو ما نجح في بعضه حتى الآن. فالرجل نفسه كان من اشد المدافعين لمشاركة القوات اليابانية في عمليات إسناد القوات الأمريكية أثناء حرب تحرير الكويت، وحزبه لا يزال طبقا لبياناته حريصا على استمرار روابط اليابان التحالفية مع الأمريكيين، وإن كان يطالب بشروط أفضل وهامش اكبر من الاستقلالية، ويصر أن تكون مشاركة القوات اليابانية في الخارج فقط في الحالات التي يصدر فيها تفويض من مجلس الأمن.
وحينما ينشر هذا المقال في الثالث والعشرين من سبتمبر يكون السباق حول الظفر بقيادة اليابان قد وصل نقطة النهاية، وتحديدا ما بين شخصيتين لا يجمعهما سوى الانتماء الحزبي وصفة الانحدار من بيتين سياسيين عريقين. فبعد رفض كويزومي رفضا قاطعا دخول السباق، ونفي وزير المالية السابق “ساداكازو تانيغاكي” نيته التنافس على زعامة الحزب الحاكم مثلما فعل دون نجاح في العام الماضي، وانسحاب وزير المالية الأخير “فوكوشيرو نوكاغا” من المنافسة، لم يبق سوى “ياسو فوكودا” (71 عاما) و”تارو أسو” (66 عاما).
والأول هو الابن الأكبر لرئيس الحكومة الأسبق تاكيو فوكودا، ويعتبر من الساسة المخضرمين الذين يميلون إلى الاعتدال والتوافق ويتهيبون إطلاق المبادرات الجريئة أو دخول المعارك السياسية. وهو بهذه الصفات قد يتسبب في إيقاف زخم الإصلاحات التي بدأها كويزومي في عام 2001 وواصلها أبي من بعده، والعودة إلى السياسات النمطية القديمة التي حطمها الأخيران، في حالة فوزه بالزعامة، وهو أمر محتمل بقوة في ظل تمتعه بدعم أجنحة عدة داخل الحزب الحاكم إضافة إلى جناحه الذي يملك 80 مقعدا في مجلسي البرلمان من اصل 387 مقعدا للحزب الحاكم.
أما الثاني فهو حفيد رئيس الحكومة الأسبق “شيغيرو يوشيدا”، وكان وزيرا للخارجية حتى الشهر الماضي حينما خرج من الحكومة في تعديل وزاري. وحتى وقت قريب كان ينظر إليه على انه الأوفر حظا لخلافة زميله أبي الذي يشترك معه في الكثير من الأفكار الإصلاحية والسياسية ولاسيما تلك الخاصة بمسائل الأمن والعلاقات الخارجية. لكن حظوظه الآن تبدو متراجعة بسبب اصطفاف معظم أجنحة الحزب الحاكم مع منافسه فوكودا، وتعرضه لانتقادات حادة من رفاقه الحزبيين بسبب ما قيل عن فشله في إقناع أبي بتأجيل استقالته، ناهيك عن أن الجناح الذي يتزعمه ليس له في مجلسي البرلمان سوى 16 نائبا. على أن ما يخدم “تارو” هو تمتعه بشعبية في الشارع أكثر من فوكودا، وهذه الميزة قد توفر له أصوات كل الخائفين من احتمالات خسارة الحزب الحاكم في أية انتخابات عامة قادمة. ويبدو أن الرجل يراهن أيضا على دعم 47 من الزعماء المحليين الممثلين في البرلمان والذين لكل منهم 3 أصوات في أي اقتراع.
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين