أن تمضي شتاء” على ارتفاع الف و اربعمئة متر فوق سطح البحر، فأنت لست بالضرورة “مكسيم شعيا”، و لا واحداً من سكان الإسكيمو، و لا عضواً في بعثة استكشافية إلى “التيبت”، ولا حتى مزارعا”لبنانيا” قابعاً قرب موقده المتوهّج، بل أنت ببساطة نازح “سوري” لجأ هربا “من الموت رصاصا إلى ملاذ لبناني ظنّه آمنا”، و لكن للموت فيه وجهاً آخر، قد يكون أشدّ ظلماً من الديكتاتوريات وأسلحتها. إنه التهجير والحرمان.
هنا في جرود عرسال، حوالي ألف وخمسمئة عائلة سورية تتحضّر لاستقبال شتاء بقاعي قارس، يخشونه، و يتحدّثون عنه، علّ الصوت يقع في آذان النفوس النائية.
من بين اللاجئين ،شاب يدعى “ربيع” نزح منذ خمسة أيّام من “القصير” مع زوجته الحامل في شهرها الثامن و أولادهما الثلاثة، و لكنّهم لم يجدوا بيتا يأويهم فاضطروا إلى السكن مع عائلة نزحت قبلهم بشهور مؤلفة من ستة أشخاص. يقول “ربيع” أن همّه الأكبر أن يجد عملاً علّه يستطيع تأمين كلفة ولادة زوجته و غرفة صغيرة يسكنونها “بس يكون فيها بواب و شبابيك، مش متل هون شبابيكها كرتون” مشيراً بيده إلى الفوهات التي يفترض أن تكون شبابيك و التي عملوا على سدّها بشراشف و كرتون سيتطاير مع أوّل هطول مطر غزير و أوّل ريح شمالية تضرب “عرسال” والتي من المفترض أن لا تتأخّر بعد.
أضاف “ربيع”: المطر والبرد والجوع تبقى أسهل من أن أرى أطفالي أشلاء لو بقيت في سوريا.
رواية أخرى من المعاناة ترويها “أم سعيد” الآتية من “دوما” مع أبنائها الخمسة، و تقول: استشهد زوجي وهربنا نحن إلى هنا، و لكننا لا نعرف ماذا نفعل و كيف سنمضي هذا الشتاء القادم، فالجمعيات لكثرة عددنا لم تعد تؤمن كلّ احتياجاتنا، و المازوت هنا في لبنان “كتير غالي، أغلى من عنا بسوريا بعزّ الحصار”. قبل هذه الأزمة كان المازوت يهرّب من سوريا إلى لبنان لرخص سعره. اليوم “برم الدولاب”. سيكون أصعب شتاء يمرّ عليّ و أولادي فلا يكفينا ذلّ التهجير من بلادنا زاد همّنا أننا فقدنا ربّ العائلة”.
الحاج أبو عدنان “الحمصي” الهويّة، لا يفكّر في شتائه هو وكيف سيمضيه، بقدر ما يثقل كاهله شتاء أبنائه الخمسة الملتحقين بالثورة ولا يعلم عنهم شيئا. يقول أبو “عدنان” أنه مهما قست الظروف عليه في ملجأه اللبناني لكنه على الأقّل سوف يجد غطاءً يدفئه و فراشاً يأويه، و لكن ماذا عن عدنان و إخوته؟ماذا يأكلون و يشربون و كيف ينامون و يتدفأون؟ و الأهم، هل ما زالوا أحياء. ولكن الحمدالله على كلّ حال، وغصّ بدمع حاول إخفاءه.
جمعيات ومراكز تسجيل، ورغم نواياها بتقديم المساعدة، إلّا أنها حوّلت اللاجئ السوري إلى بطاقة و رقم. وهو إن لم يشعر بعد ببرودة الطقس فإن قسوة الظروف والحرمان و فقدان الأمان جعلوا أيّامه كلّها باردة و رماديّة كسماء شتاء جرود لبنان.
من “القصير” و”دوما” و”حمص”: لاجئون على أبواب شتاء “عرسال”فلسفة الندم اجتمعت بطبيب من حوران ـ من بصرى الحرير ـ يعمل في جنوب المملكة فكان أول سؤالي له من ثلاثة أجزاء: ما الأخبار داخل سوريا؟ كيف معنويات الناس في هذه الأيام العصيبة؟ والأهم هل هناك من (ندم) لِمَ آلت الأمور إلى ما هي عليه من دمار مليوني منزل ونزوح خمسة ملايين ومقتل أكثر من ثلاثين ألفاً ومائة ألف من المفقودين وأرقام لا يعلمها إلا الله من المعتقلين والمعذَّبين والمعطوبين والمشوهين والمعاقين! سؤالي هل من ندم على هذه المخاضة؟ أجابني الرجل بجملة أدهشتني! قال نعم ثمة ندم؟ ثمة ندم؟ كررت سؤالي؟ قال… قراءة المزيد ..