كانت معركة انتخاب رئيس الجمهورية الحدث الأبرز في الحياة السياسية السورية في ذلك العام؛ ومن بدايته أخذ يدور صراع محموم في الكواليس وفي العلن حول هذا السباق الرئاسي، وكان قد قارب عهد الرئيس هاشم الأتاسي على الانتهاء. وفي تلك الفترة كان هنالك اتجاه نافذ في أوساط الجيش يعارض عودة شكري القوتلي ((مواليد ١٨٩١) إلى سدة الرئاسة، وكان لاجئاً في مصر منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949. يرى أكرم الحوراني في مذكراته أن العقيد عدنان المالكي كان رآس الحربة في هذا الاتجاه.
بعد الانتخابات النيابية التي جرت في صيف عام 1954 بدأ يطفو اسم السياسي المخضرم خالد العظم (مواليد ١٩٠٣ في دمشق) كمرشح أبرز لرئاسة الجمهورية، رغم انه لم يكن منتمياً لحزب يدعمه، وكان قد حصل على أعلى الأصوات في هذه الانتخابات عن مدينة دمشق(22 الف صوت). وصار يبدو كقطب سياسي محوري، خاصة على مستوى السياسة الخارجية والاقتصاد. وقد لمع اسمه في “مؤتمر باندونغ” الذي ترأس وفد سورية إليه. وكان معارضاً لسياسة الأحلاف الدولية والمحاور الإقليمية. ولقد تمتع بنهج وطني استقلالي، وعلى المستوى العربي انحاز في مواقفه للقضية الفلسطينية والوحدة العربية المتدرجة معارضاً للوحدة الارتجالية والاندماحية. وكان قد قدم للجامعة العربية مشروعا وحدويا طالب فيه آنذاك بسوق اقتصادية عربية مشتركة ودبلوماسية موحدة و قيادة عسكرية مشتركة وتوحيد للمناهج التعليمية وغيرها من الميادين فبل الكلام عن الوحدة السياسية الفورية. وكانت لدى خالد العظم رؤية اقتصادية لتطوير سورية تركز على أهمية بناء وتطوير البنية التحتية للدولة، وعلى الرسملة الزراعية وتحسين مستوى الريف وزيادة القدرة الشرائية للفلاحين. كان خالد العظم يعتبر تحسين اوضاع الريف عاملاً هاماً في تطويرالقطاع الصناعي وتعاظم دوره السياسي في داخل المجتمع السوري، ويحد من دور تحالف الإقطاعيين والتجار ومشايخ المؤسسة الدينية وكذلك يحد من تدخل الجيش في السياسة.
لقد تحالف ضد خالد العظم في تلك المعركة الرئاسية كل دول الغرب بما فيها فرنسا، وكل الدول العربية بما فيها مصر والسعودية، وعلى مستوى الجيش فقد لعب آنذاك رئيس الأركان شوكت شقير ومدير الشعبة الثانية عبد الحميد السراج دوراً ازدواجياً وكانت لهما علاقة وطيدة مع مصر التي لم تكن راضية عن مواقف خالد العظم. فكانت قيادة الجيش من جهة تشجعه على الترشح والاستمرار في المعركة إلى نهاياتها ومن جهة ثانية كانت تعمل في الخفاء على تقوية فرص القوتلي بالنجاح. وبقيت تحثه على عدم الانسحاب من المعركة خوفاً من أن يدفع ذلك حزب الشعب إلى تقديم مرشح عنه للسباق الرئاسي.
مازلت أتذكر جلسة مجلس النواب التي جرت في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس في 17 آب عام 1955. كان الشيوعيون متحمسون لكي تكون النتيجة لصالح خالد العظم. وكانت جادة الصالحية في منطقة البرلمان حافلة بالناس الذين أتوا إلى أمام البرلمان ليسمعوا فرز النتائج عبر مكبرات الصوت. في الدورة الأولى حصل القوتلي على 89 صوتاً وخالد العظم على 42 صوتاً وبسبب عدم حصول القوتلي على أكثرية الثلثين بحسب الدستور، جرت الدورة الثانية بعد نصف ساعة فارتفعت فيها أصوات القوتلي إلى 92 صوتاً وانخفضت أصوات العظم إلى 41 صوتاً حيث تغيب عن الجلسة الثانية النائب الحموي رئيف الملقي. كانت أصوات خالد العظم كما يقول أكرم الحوراني في مذكراته: ” 28 صوتاً ممن تبقى معه من أعضاء الكتلة الديموقراطية التي كان يرأسها العظم حيث بعض أعضائها انحاز لصالح خصمه طمعاً بالاستيزار والمصالح الشخصية، وكذلك حصل على اصوات حزب البعث والنائب الشيوعي خالد بكداش”. ووقف ضده نواب حزب الشعب والحزب الوطني بما فيهم صبري العسلي ونواب كتلة العشائر والكتلة الدستورية برئاسة منير العجلاني. ويجب ألا ننسى هنا المشايخ الذين لعبوا دوراً تحريضياً ضد العظم، وحتى لم ينسى النائب الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق أن يذكر بموقف العظم في المجلس النيابي من قصيدة نزار قباني (حب وخبز وحشيش). فلم يعط خالد العظم آنذاك أية أهمية لهذه القضية واعتبر آنذاك كلام القصيدة مسألة عادية ودارجة في هذه الأيام”. ويقال أن النائب مصطفى الزرقا ونواب آخرون طالبوا بمنع تداول ونشر هذه القصيدة التي كتبها موظف رسمي من ملاك الخارجية السورية، حيث كان نزار قباني يعمل دبلوماسيا في السلك الخارجي. وبحسب مذكرات خالد العظم وكان وزيراً للخارجية أنه خاطب نواب البرلمان قائلاً:” من الأفضل تجاوز مثل هذه القضية، وإذا منعتم تداول ونشر القصيدة فسوف يزيد انتشارها في السر”.
لا يوجد شك في أن خالد العظم كان يحمل في جعبته مشروع تغيير ديموقراطي وطني على مستوى السياسة والاقتصاد في سوريا، ومشروع اتحاد عربي ديموقراطي بعيد عن الدمج والارتجال ويتسم نهجه على مستوى السياسة الخارجية بالوطنية والاستقلالية وعدم الانحياز للأحلاف والمحاور الدولية والإقليمية. ولكن علينا الاعتراف بأن مشروعه التغييري هذا كان يحتاج لحامله السياسي وعامله الذاتي. فلم يكن لخالد العظم حزبَه السياسي، ولم تكن لديه الكتلة النيابية المتماسكة. فكان بعض أعضاء كتلته الديموقراطية التي يرأسها يلعب دور الطابور الخامس لصالح أحزاب سياسية وجهات أجنبية دولية وإقليمية مناوئة له. وفي الواقع، لقد لعب العامل الخارجي دوراً بارزا في معركة السباق الرئاسي بين القوتلي والعظم، وكذلك كان في كواليس تلك المعركة دورلايستهان به للمال السياسي والمصالح والمنافع الشخصية. ولقد أصيب خالد العظم بعد نتيجة الانتخابات بخيبة أمل كبيرة، خاصة من بعض الاصدقاء المقربين. ولم يقف الأمر عند الخيبة وإنما اصيب ايضاً بذبحة قلبية كادت أن تودي بحياته وأقعدته في الفراش شهراً كاملاً.
يلوم بعض الدارسين والباحثين خالد العظم؛ فيرون أنه لم يكن واقعياً ولا براغماتياً، وخلق لنفسه الكثير من الأعداء والمناوئين، ويرون ان النتيجة التي حصدها في تلك المعركة الانتخابية كانت بفضل سياساته المعادية للغرب التي نهجها.
في اعتقادي إن خالد العظم لم يكن معادياً للغرب الرأسمالي وهو الليبرالي الكبير، إنما كان يدافع عن مصالح سورية وتحييدها عن الأحلاف والمحاور الإقليمية التي يدعمها الغرب خدمة لمصالحه ومصلحة إسرائيل ووظيفتها في المنطقة. ولكن من جانب آخر فإن الصراع على السلطة في سورية في تلك الفترة والصراع الدولي والإقليمي عليها كانا أكبر من شخص سواء كان براغماتياً أو العكس. بطبيعة الحال لم يكن خالد العظم ضامناً نجاحه في المعركة الرئاسية، ولم يكن غائباً عن ذهنه أن مناوئيه كثر في الغرب وفي الإقليم، ولا يجهل عداء الأميركيين له ولم ينس عدم استقباله من قبل وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالس ولا جفاء وزير الخارجية البريطاني هارولد ماكميلان معه في كواليس هيئة الأمم المتحدة. ربما ما يؤخذ على خالد العظم وهو الديموقراطي بامتياز عدم ايمانه بالحزبية، في الوقت الذي تشكل الأحزاب السياسية ركناً أساسياً من أركان الدولة الليبرالية والديموقراطية.
في اعتقادي مضمون المشروع التغييري الكبير الذي حمله في ذهنه خالد العظم على مستوى السياسة والاقتصاد كان يمنحه الفرصة ليؤسس حزبه الليبرالي الوطني، وهذا ما لم يفعله وهو من أكبر أخطائه. ويعترف في مذكراته بانه فكر بعد هذه المعركة بتشكيل حزب ولكن كان قد فات الأوان.
دمشق في 10/8/2019